قناديل: طنينُ العناوين والأعداد الكبيرة

1 day ago 5
ARTICLE AD BOX

 لطفية الدليمي

في أعقاب احتلال العراق عام 2003 تسيّدَتْ عبارةٌ واحدةٌ المشهد العراقي الخَرِب: السوق الحرّة. صار الإعلان عن هذه العبارة أقرب إلى مهمّة تبشيرية مقدّسة ستعيدُ ترميم الإقتصاد العراقي وتنتشلُ الفرد العراقي من فخّ الحاجة والحرمان. اقترنت المهمّة التبشيرية بِـ (السوق الحرّة) بمهمّة مقابلة لا تنقصها الحرارة ولا الحماسة: لَعْنُ الاشتراكية واعتبارُها سرطاناً مزمناً تسبّب في تآكل الجسد العراقي وانتهائه جثّة عليلة مركونة في هامش بعيد عن مراكز الحراك العالمي. أذكرُ في هذا الشأن أنّ أحد نشطاء (العملية السياسية) والمبشّرين ببركاتها القادمة علّق في مقابلة تلفازية بأنّ الإقتصاد العراقي كان إقتصاداً إشتراكياً خاضعاً للتخطيط المركزي. قال العبارة بكيفية تشي بأنه يريد القول أنّ الاشتراكية تعني الفشل المحتوم. هذا المبشّرُ بجنان السوق الحرّة أراد لنفسه وزارة أسماها (وزارة الناطقية). أراد ترقية منصب الناطق الحكومي لمرتبة وزير بوزارة مع كلّ الذيول الإدارية والهدر المالي المقترن بوزارة غير منتجة. يتناسى هذا المبشّر أنّ السوق الحرّة الحقيقية تعمل بمشرط جرّاح حاد النصل ولن تقبل بتوسعة موارد الإنفاق الحكومي على مشاريع غير منتجة. هو يعرف الحقيقة لكنّه يتغافلها عندما يختصّ الأمر بمصالحه. إنّه يُعلي شأن العناوين الكبيرة لأنْ لا بضاعة لديه سواها. أين هو الآن؟ غاب عن المشهد العراقي مثلما غاب نظراء كثرٌ معه. غاب بعد أن وضع يده على نصيبه من الغنيمة. أين هي السوق الحرّة العراقية؟ إنّها فوضى ضاربة لا يصلح معها أيّ عنوان صغيراً كان أم كبيراً. لستُ أرغبُ في تقديم أطروحة عن جدوى أو حدود تطبيق السوق الحرّة في إقتصاد كالإقتصاد العراقي وفي مجتمع كالمجتمع العراقي؛ لكنّي سأكتفي بالقول أنّ السياسة الإقتصادية للدولة العراقية في عهودها المختلفة السابقة كانت أكثر عقلانية وعدالة، ودعونا من الهتافات العريضة التي شيطنت اللمسة الإشتراكية في الإقتصاد وجعلتها قرينة لمسة الشيطان. هذه واحدة من دعايات الحرب الباردة. سيحتجّ كثيرون: أنظري للمولات والسيارات الحديثة التي ننافس بها دول الخليج. نعم، قد تمتلك سيارة دفع رباعي حديثة الطراز؛ لكنّها قد تكلّفك خدمة أقساط قرض لعدد غير قليل من السنوات. أما إمتلاكُ منزل فهذا صار حلماً بعيد المنال في عاصمة صار فيها المنزل لصق المنزل. ثمّ أين هي بنيتك التحتية الرصينة؟ تتمتَعُ بطعام اليوم وتنسى استحقاقات الغد؟ أليس هذا هو العبث في أعلى درجاته؟ غابت الحدائق والساحات والمتنزّهات، وحمداً للرب أنّ (الفاسدين) لم يضعوا اليد حتى الآن على الجزرات الوسطية في الشوارع العامة. لم يكن النظام الإقتصادي العراقي اشتراكيا قبل عام 2003 طيلة عهوده السياسية المتبدّلة. كان فيه بعض اللمسات التي تعلنُ عن شبه دولة رعاية إجتماعية في العلاج والخدمات والتعليم، وكان أفضل بكثير من هذه الفوضى الإقتصادية التي سُحِقَتْ فيها الحقوقُ تحت ضوضاء العناوين الكبيرة. أقول بملء الفم ومن غير استحياء: السوق الحرّة لا تخدمنا. هي تخدم السُرّاق الكبار وحيتان الفاسدين دون سواهم.
تأسرُنا العناوينُ الكبيرة. إنّها جزء من ثقافتنا وحكاياتنا التراثية. أوّلُ ما يتعلّمه السياسيون المبتدئون لدينا هو فنّ تزويق الكلام وزركشته، ولعلّ اللغة العربية ببديعها الساحر وجمالياتها الباذخة تشجّعُ هذا التوجّه الذي لو لم يكن منقاداً لإرادة خيّرة صلبة فسيكون بوّابة للكذب والتدليس واللعب على الحبال بكلّ أشكالها.
تأمّلوا معي الواقعة التالية: تعلنُ جامعة عراقية حكومية عن تأسيس قسم جديد للسنة الدراسية 2024-2025 بعنوان (هندسة الذكاء الإصطناعي والإنسان الآلي)، وهذا أمر طيب بالتأكيد حتى لو جادل البعض بأنّنا لا نملك البنية التحتية اللازمة لعمل خريجي هذا القسم؛ لكنّ المفارقة أنّ كلية أخرى في الجامعة ذاتها لديها قسمٌ متأسسٌ يختصُّ بِـ (الأتمتة والذكاء الإصطناعي)!!. نعرف ما سيقوله مسؤولو الجامعة: الكلية أكبر من القسم وأعلى شأناً منه. ألم يكن من الأجدى ترقيةُ القسم ليكون كلية بدلاَ من تأسيس كلية جديدة؟ هل لدينا وفرة من الموارد المادية والأكاديمية تتيحُ لنا رفاهية بعثرة الموارد بدلاً من تركيزها للحصول على مخرجات أكثر جدوى ونفعاً؟ إنّها حمّى البحث عن عناوين كبيرة يحسبها المسؤولون إنجازات كبرى وما هي كذلك. تنفق الحكومة المال من غير حساب للعوائد الحقيقية. ربما يفتتحون قسماً أكاديمياً لتوفير درجات تعيين جديدة لحاملي الشهادات العليا الموصى بهم من احزابهم طمعاً في أصواتهم الإنتخابية.
الأعداد الكبيرة – حالُها كحال العناوين الكبيرة- تفعلُ فعلتها المؤثرة في حياتنا. لا نميل لصغار الأعداد ونراها منقصة لا تليق بنا. ربما يتأسس هذا الميل تاريخياً وفلسفياً على كراهتنا للفردانية وإعلائنا شأن الجمع فوق الفرد. ثقافتنا ثقافة جمعٍ يُحشّدُ لتحقيق هدف ترى الجماعة -ممثّلةً برأسها- أنّه يخدمها. نقدّسُ الأعداد الكبيرة التي تشي بجموع متكاثرة يستعصي عدُّها. عندما تخرج مظاهرة لسبب ما لن يقتنع منظّموها إلّا بتوصيفها بالأعداد المليونية حتى لو كانت بضعة آلاف متناثرة هنا وهناك. لا نريد الملايين الكثيرة من البشر لفعل أمر طيب، بل نريدها في الأفعال المرذولة كذلك. صرّح مسؤول سياسي في عقود بعيدة سابقة بأنّ لا ضير من بقاء عشرين مليوناً من العرب المحافظين على عزّتهم وكرامتهم حتى لو تطلّب الأمر التضحية بثمانين مليوناً أيام كان العرب قرابة المائة مليون. بالطبع لن يكون هذا السياسي أو أحد أفراد عائلته أو أقربائه في عداد الثمانين مليوناً من البائسين الذين أرادت لهم مشيئة هذا السياسي وولعُهُ المَرَضيُّ بالأعداد الكبيرة أن ينتهوا جثثاً في مطامير الموت المتناثرة بلا حساب.
قرأتُ قبل أيام أنّ وزارة التعليم العالي أعلنت جاهزية الجامعات العراقية لإعلان قبول 21000 ألفاً في الدراسات العليا. ما هذه الآلاف المؤلّفة في الدراسات العليا؟ ما جدواها؟ ها هي معضلة الأرقام الكبيرة تطلُّ برأسها ثانية. تريد الوزارة دغدغة مشاعر الطلبة بعيداً عن أيّ حسّ بصناعة النخب الحقيقية وبعيداً عن الإستحقاقات الأكاديمية الرصينة. الموارد ليست لعبة مفتوحة النهايات، ومن المنطقي توفيرُ هذه الموارد لأفضل العقول وأكثرها رغبة وشغفاً في العمل والإنجاز. ماذا يعني أن يتخرّج لديك بعد سنتين أو ثلاث 21000 الفاً من حملة ماجستير ودكتوراه أغلبهم في تخصصات غير منتجة أو فعالة أو مؤثرة، وينتظرون منك إمتيازات الشهادة العليا المادية فحسب؟ كلّ هذا يحصل في وقت بات فيه العالَمُ يرى في النسق الكلاسيكي للشهادة العليا نظاماً عتيقا يحتاجُ لإعادة نظر جذرية وبخاصة بعد التطورات الثورية في إتاحة موارد المعرفة المجانية عبر شبكة التواصل العالمية.
حتى سرقاتُ اللصوص صارت أرقاما كبيرة. كان الموظّف الحكومي أيام الملكية يحتاجُ إستصدار إرادة ملكية إذا ما بلغ مرحلة الترفيع إلى الدرجة الوظيفية الأولى التي يبلغ راتبها ثلاثين ديناراً. اليوم بلغت أقيام بعض المُختلَس والمسروق والمنهوب من وارداتنا المالية مليارات تعادل بعض ميزانيات دول جارة لنا أو تقترب منها في الأقلّ، وما سرقة القرن ببعيدة عنّا. هذا في سرقة واحدة؛ أمّا لو أردنا المجموع المنهوب فسيتجاوز ميزانية البنتاغون التي بلغت هذه السنة (2025) تريليوناً من الدولارات.
هذه هي حياتنا العراقية. عناوين وأعداد كبيرة تنفخُ الهواء في عجلة الطموحات والآمال، ثمّ تتكشّفُ لنا الحقائق المرّة لاحقاً خسائر تتوالى وضياعاً إجرامياً قصدياً لفرص تنموية لن تتكرّر كلّ يوم. كان الإله والطبيعة كرماء معنا بأكثر ممّا فعلا مع آخرين؛ لكنّ هذا الكرم بدّدناه في سُعار صاخب أراق دماءنا وأزهق أرواحنا وآمالنا.
لا أظنُّ أنّ الإله والطبيعة سيكونان كرماء معنا بعد اليوم. ليس وعيداً. إنّه تذكرةٌ لمن إستطاب النوم في عسل العناوين الجوفاء والأرقام الكبيرة المدوّية.

The post قناديل: طنينُ العناوين والأعداد الكبيرة appeared first on جريدة المدى.

Read Entire Article