كامل إدريس... الصعود إلى المحرقة

1 day ago 2
ARTICLE AD BOX

كما يقول المناطقة، الفرضيات الخاطئة لا تنتهي إلى خلاصات صائبة، فمثلما دعمت سندات التأهيل في السودان صعود عبد الله حمدوك إلى رئاسة السلطة التنفيذية غداة الثورة، ها هو كامل إدريس يحظى بالمنصب اتكاءً على المؤهلات نفسها على انقاض الثورة والدولة، فبالإضافة إلى أوراق المؤسّسات الأكاديمية والدولية، شكّل تحرّرهما من الانتماء إلى حاضنة سياسية شرطاً جاذباً، مع أنه عنصر يعطّل عقلية النقد والاختيار ووهج الالتزام، فالحياد لا يليق بسياسيٍّ يطمح إلى قيادة شعب أو إعادة بناء دولة. ذلك (امتياز) خارج طبيعة الصراع منذ خلاف قابيل وهابيل إلى انقسام أحفاد آدم بين مستكبرين ومستضعفين. لو تفحصنا اللحظتَين التاريختَين، لربما اتفقنا أن حظ حمدوك أفضل من أخيه، فبينما صعد الأول وسط أهازيج الجماهير، جاء تعيين الآخر عبر فوهة البندقية. كذلك الجماهير بأسرها صارت، والدولة برمّتها، بين أيدي ثالوث السلطة والثروة والدين، فرعون وقارون وهامان، وهذا معبد لا يتقبّل إلّا كاهناً مطيعاً في خدمته.

كما اصطدم حمدوك بالمؤسّسة العسكرية، سيكتشف كامل إدريس حتماً أن الجنرالات أكبر عقبة أمام أحلامه الذاتية

***

حظ كامل أسوأ من أخيه، لأنه يتقلد منصباً أجوف، بلا ظلّ سلطة. جرّد الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيسَ الوزراء من كل صلاحياته بالتعديل الدستوري والزندقة العسكرية. بالإضافة إلى ثالوث المعبد، يوجد ارتكاز القابضين على مفاصل الامتيازات بقوة السلاح، فلا قدرة لدى كامل، بل لا رغبة لديه في الاصطدام مع الفرعون وقارونه، ولا حول له من أجل مناطحة الانتهازيين المنتفعين بالثروة، كما لا طَوْل له على معصية هامان، القابض على خيوط اللعبة من وراء حجاب. هكذا يجد كامل إدريس بين يديه حلماً، ظل يراوده في وعيه ولا وعيه منذ العهد المايوي (عهد جعفر نميري) في ظرفٍ غير مؤاتٍ البتة من أجل محاولة إثبات قدرةٍ ما. هو ظرفٌ أقرب إلى المحرقة، لكن الرجل المهجوس بحلم السلطة لا يملك وازع التردّد في القبول، دع عنك الرفض. مع ذلك، هناك دوماً مساحة للتفاؤل، فربما يكتشف كامل مبكراً بعد البلل خياراً للنجاة من الغرق في المستنقع، أو نفرط في التفاؤل، فكما أسمينا حمدوك المؤسّس فلعل كامل إدريس يكون المنقذ.

***

حركة التاريخ مضمار تُعيد الشعوبُ عليه اكتشاف قدراتها كما تستكشف قياداتها، لم يعرف الشعب في كامل إدريس مُحرّضاً وسط الحراك الجماهيري، أو متحدّثاً على منصات السياسة، أو مساهماً في جدل الصحافة. هذه المواصفات أكثر ترجيحاً من السندات الأكاديمية ومناصب المؤسّسات الدولية لنجاح رئيس سلطة تنفيذية عند منعطف السودان التاريخي الراهن، فهي تعجم عود سياسي مصادم، ولو من طراز مبارك الفاضل أو أمين حسن عمر. تسكع عبدالله حمدوك بالسلطة ثلاثة شهور على رصيف الثورة، بانتظار برنامج عمل من حاضنته (قوى الحرية والتغيير). تلك تنشئة موظفي المؤسّسات الدولية، بغضّ النظر عن تلك اللحظة التاريخية، من أوجب واجبات رئيس الحكومة المكلّف إعداد خريطة عمل حكومته، هو يفعل ذلك بمبادرة ذاتية أو بمعاونة فريقٍ من معاونيه.

النخبة العسكرية عدوٌ تقليدي للديمقراطية بحكم التنشئة والأطماع

***

حظّ حمدوك أفضل من لاحقه، إذ وجد السابق، غداة الثورة، كتلة جماهيرية مهيأة لخوض معركة التغيير، بينما اللاحق يواجه مهمة قيادة سلطة تنفيذية وإعادة بناء دولة والقاعدة كلّها في حالة انهيار. أسوأ من ذلك وقوع ركام الانهيار تحت هيمنة بيروقراطية ضيقة الأفق وسلطة فردية طاغية. لذلك أول اختبار أمام كامل إدريس يتمثّل في توليف إدارة حكومية، قوامها مناضلون طليعيون مدركون أبعاد مهام إعادة بناء المجتمع والدولة. هم بالضرورة منحازون إلى البؤساء والمستضعفين ضد الأثرياء والمستكبرين. بالطبع، لا متّسع لإحداث خطوة واحدة على درب التغيير والتقدّم قبل استرداد السلم الوطني وخارجه. هذه حتمية زمنية بغية نشر مظلة الاستقرار، وتأكيد نهج القيادة الرشيدة، وتكريس النزاهة والشفافية، وبسط الأمن وسيادة القانون، واستنفار القدرات البشرية واستثمار الطاقات الشبابية. لكن محور الاسئلة: ما هي آلية كامل إدريس وجنوده لاسترداد السلام أولاً؟ ثم أين هو جهازه الإداري لتسيير دولاب العمل الحكومي؟ على أيّ رقعة من الوطن تنداح فعالية هذا الجهاز؟

***

كما اصطدم حمدوك بالمؤسّسة العسكرية، سيكتشف كامل إدريس حتماً أن الجنرالات أكبر عقبة أمام أحلامه الذاتية. من ثم تطير رهاناته الذاتية وتطلعات المراهنين الوطنية أدراج الرياح، فالنخبة العسكرية عدوٌ تقليدي للديمقراطية بحكم التنشئة والأطماع. هكذا يتحوّل الجنرالات، وفق السيرة السودانية، إلى قاطعي طريق أمام كل محاولة لجهة التحوّل الديمقراطي، فهم أعداء لفريق المرحلة الانتقالية، إن صدق كامل إدريس، كما كانوا في مرحلة حمدوك المجهضة. أكثر من ذلك، وفق التجربة المستنسخة، فإن جنرالات المرحلة الحالية ليسوا مَن أجهض جهد حكومة حمدوك الانتقالية فحسب (نفس الزول كما تقول الأهزوجة الثورية)، بل هم حلفاء وشركاء مع محترفين، دأبهم استثمار الوظائف العامة وموارد الدولة لمراكمة الثروات.

Read Entire Article