كل عيد تحرير وأنتم بخير

6 days ago 3
ARTICLE AD BOX

مدهش. حتّى لأشخاص مثلي يدّعون أنهم غير منقطعين عن الميدان بما فيه من تواصل مع الناس وما يفكّرون ويشعرون به، كانت نتيجة ذلك الاستطلاع مدهشة. خصوصاً أنّ من شارك بإنجازه ونشره، كانت صحيفة عريقة لا يمكن أن تُحسب ولا بأي شكل على الرأي العام الداعم للمقاومة الإسلامية الحالية، أو حتّى سابقاتها عندما كانت يسارية أو منضوية تحت اسم وطنية، وهذا تاريخياً. 

يقول الاستطلاع الذي أجرته الدولية للمعلومات لحساب جريدة النهار اللبنانية بين مارس/آذار وإبريل/نيسان الماضيين، وعلى عيّنة منوّعة طائفياً ومناطقياً وعمرياً، إنّ (75.3%) من اللبنانيين يعتبرون إسرائيل عدّوة لهم ولبلادهم.

نعم. على الرغم من كلّ الضجيج الذي يكاد يصمّ الآذان، ويعلو من منابر إعلامية وسياسية وحزبية، تجرّأ أصحابها على القول، وبأعلى صوت وأوقحه، إنّ التطبيع مع هذا العدو، حتى ونحن في خضم حرب يشنّها علينا، ليس "تابو"، أي أنه ليس محرّماً!

لكن، أهذا مدهش؟ قد يتساءل أهل المنطق، في بلادٍ تحتل إسرائيل بشكل أو بآخر ربع مساحتها تقريباً، وتغتال يومياً مواطنيها وتختطف بعضهم وتقتل المدنيين بالمسيّرات وتقصف أراضيها وأي احتمال لإعمار ما دمّرته الحرب، وتحاول أن تمنع عودة أهاليها إلى أراضيهم، وتستهدف جيشها لتحول دون نجاح انتشاره جنوب الليطاني حسب آلية وقف إطلاق النار، وتستبيح سماءها ليل نهار، متجسّسة على أهلها ومحدثّة "الداتا" التي تملكها عن اللبنانيين على مدار الساعة؟ نعم إنّه مدهش، مع أنه الاستنتاج المنطقي والطبيعي.

الضجيج الذي يحيط بنا منذ اتفاقية وقف إطلاق النار، الذي لم يتوقف ولا للحظة، كان يوحي كما لو أنّ هناك مزاجاً شعبياً مستسلماً لفكرة التطبيع مع إسرائيل

فالضجيج الذي يحيط بنا منذ اتفاقية وقف إطلاق النار، الذي لم يتوقف ولا للحظة، والذي رافق، مثل موسيقى تصويرية كلّ خطوات تشكيل السلطة الجديدة، مستفيداً من ارتباك اللبنانيين بعد الضربات المؤلمة التي سدّدتها إسرائيل للبلاد، ومن اختلال ميزان القوى لصالح الضغوط الخارجية الأميركية خاصة، كان يوحي كما لو أنّ هناك مزاجاً شعبياً مستسلماً لفكرة التطبيع مع إسرائيل، وهو عاجز ويائس لدرجة إمكانية تقبّله ما كان يرفضه دوماً، أو بالأحرى ما كانت ترفضه غالبيته الساحقة، من تقبّل لعدو لم يرتضِ يوماً الخير أو السلام للبنانيين، حتى عندما كانوا يتعاونون معه، كما حصل لجيش أنطوان لحد العميل بعد تحرير العام 2000.

وبسبب ذلك الضجيج الذي كان يملأ الآذان أدهشتني النتيجة كما أدهشت حتى محرّر الخبر في الصحيفة، الذي عبّر عن ذلك بقوله إنّ النتيجة كانت "لافتة للنظر على الرغم من أن العيّنة تبقى عيّنة" كما أشار في ملخص نتيجة الإحصاء، وإنّ "الإجابات عن الأسئلة قد لا تكون دائماً دقيقة تماماً، لا لنقص في الاستطلاع، بل لبعض التقيّة لدى المستطلعين الذين لا يأمنون أحياناً لوجهة المعلومات، فيقولون بعكس ما يضمرون". 

وبالرغم من هذا النفس التحريري التبريري الذي بدا كما لو أنه يلتمس العزاء عن نتيجة كهذه، إلّا أنّ الأرقام لا تكذب وهامش الخطأ لن يكون شاسعاً. 

تغلغل المطبّعون داخل مراكز مهمّة في الدولة بضغط من الخارج

إنّ ما يقوله الاستطلاع، خاصة إن طرحنا من المجموع المتبقي، أي من نسبة 24,79%، من لا إجابات لديهم أو من مارسوا التقيّة حسب المحرّر، فإن أقل من عشرين بالمئة (في أحسن احتمال) من اللبنانيين لا يعتبرون إسرائيل عدوّة وبالتالي يرتضون هذا الخيار. 

لذا؛ من المنطقي الاستنتاج أنهم من كانوا يصدرون كلّ هذا الضجيج التطبيعي الذي أثبت الاستطلاع أنّ أصحابه هم الأقلية. لكن، كيف استطاعت هذه الأقلية إشاعة هذا الجو الذي بدا طاغياً وتبيّن أنه غير معبّر؟ هذا هو السؤال. 

الاحتمالات كثيرة. وليست بحاجة إلى تفكير عميق:

أولاً؛ لاستيلاء القوى المناصرة للتطبيع على معظم وسائل الإعلام الخاصة واسعة الانتشار، كالتلفزيونات الثلاثة الأساسية. وهذه الأخيرة للمناسبة، مموّلة بمعظمها من خارجٍ متدخلٍ في الشؤون اللبنانية، معادٍ للمقاومة أو مُهادن وحتى داعم لإسرائيل. 

ثانياً؛ وقاحة مستجدة بالإعلان من دون خوف عن الآراء المطبّعة، بتشجيع من جو الصدمة الذي ساد بعد الضربات المؤلمة للمقاومة، والارتباك الذي خيّم، ولا يزال بقدر أقل، إزاء التغيّرات المهولة التي قلبت الأوضاع في المنطقة رأساً على عقب، خصوصاً وأنّ مواقف السلطة الحالية تبدو وكأنها تحاول كسب الوقت لإيجاد طريقة تجمع بين إرضاء الخارج الضاغط بقوّة، وحماية الداخل اللبناني الهشّ. خصوصاً أنها، أي السلطة، تستشعر خطراً وجودياً حقيقياً هذه المرّة على البلاد. وما الكلمة التي خاطب بها  قائد الجيش رودولف هيكل العسكريين بمناسبة عيد التحرير والمقاومة (يصادف غداً الأحد)، والذي كان الاحتفال به أو تجاهله موضع ترقّب، إلّا المعبّر الحقيقي عن هذا التوجّه، إذ قال "في عيد المقاومة والتحرير، نقف أمام مناسبة تاريخية بإنجازاتها، متمثلة بتحرير الجزء الأكبر من أرضنا، بعد عقود من احتلال العدو الإسرائيلي، وهو إنجاز وطني يحمل رمزية كبيرة عبر استعادة معظم أراضي الجنوب، بفضل صمود اللبنانيين وثباتهم". 

أما السبب الثالث فهو تغلغل المطبّعين داخل مراكز مهمّة في الدولة بضغط من الخارج، والافتخار علناً بمواقف مراعية للعدو من باب الكراهية الطائفية أو العنصرية الموروثة من الحرب الأهلية اللبنانية، أو لمجرّد المصلحة وحتى القناعة.

الحلم بالدولة المدنية، الذي تعبّر عنه الأكثرية في كلّ مناسبة، لا يمكن أن يتحقّق في بلد لا يملك من مقوّمات الاستقلال شيئاً

حسناً. يبقي الوجه الآخر للسؤال: لِمَ يعلو ضجيج المطبّعين وهم الأقلية على صوت الأكثرية من الرافضين، ودائماً حسب نتائج الاستطلاع؟  

هذا السؤال يبقى برسم هذه الغالبية، التي بدت مؤخراً تحاول استرداد أنفاسها على الرغم من الضغوط المهولة وغير المسبوقة التي تتعرّض لها، إن كان أفرادها من المؤثّرين أو الصحافيين أو المشاركين في السلطة أو حتى لبنانيين عاديين. 

الأهمّ في هذا الاستطلاع، وهي خلاصة تعنينا كلنا؛ بصفتنا لبنانيين عشنا الحرب الأهلية والحروب الإسرائيلية من دون أن نستطيع الاستفادة من الدروس التي تعلمناها بسبب بنية نظامنا الطائفي المقيت واستسلامنا للخارج بكلّ أنواعه، أنّ ما نسبته 65.3% من المستطلعة آراؤهم جزموا بأن "الحل الأفضل للوضع في لبنان هو إلغاء الطائفية السياسية وإقامة الدولة المدنية"، وهي نتيجة معبّرة. 

إلّا أنّ هذا الحلم بالدولة المدنية الذي تعبّر عنه الأكثرية في كلّ مناسبة، لا يمكن أن يتحقّق في بلد لا يملك من مقوّمات الاستقلال شيئاً، تتعايش مقوّماته بصعوبة، ويحيا مستوفزاً بجانب كيان استيطاني، توسّعي وعدواني يتربّص به في كل آن، فيحتل أرضه ثم نحرّرها بصعوبة، ثم نفرّط بها وبدماء الشهداء ثانية بسبب خلافاتنا، ونعود فنحرّرها، في دورة لا ولن تنتهي إلّا بنهاية هذا الكيان أو نهايتنا. 

لذا؛ وبانتظار الدولة المدنية التي صارت أشبه "بالعنقاء والخِلّ الوفي"، وبانتظار التحرير الدوري المقبل، كلّ عيد تحرير وأنتم بخير.

Read Entire Article