ARTICLE AD BOX
في مشهد اجتماعي مُتغير، بدأت تقاليد التعزية ومجالس العزاء تأخذ منحى آخر في العراق يبتعد تدريجيًّا عن الطقوس الجماعية التي شكّلت لعقود جزءًا أساسيًّا من النسيج المجتمعي، خصوصًا في المدن إذ لم تعد مراسم الحزن كما كانت، ولم يعد "الواجب الاجتماعي" يُؤدى كما عرفته الأجيال السابقة. فجيل اليوم، المحاط بتسارع الحياة وضغوطها، بات يُفضل التعزية السريعة والعملية مثل مكالمة هاتفية، رسالة نصية، أو منشور رقمي يختصر مشاعر العزاء في سطرين، يقول بعضهم إن هذا النمط الحديث يوفر الوقت ويُجنبهم الإحراج الاجتماعي، خاصة في ظل ما أصبحت تمثله المجالس من أعباء مادية، ومناسبات اجتماعية تخضع لحسابات المجاملة، أكثر من كونها لحظات صدق ومشاركة وجدانية.
وتشهد بغداد والعديد من المحافظات اندثاراً لمجالس العزاء التي اختصرت على يومين أو اليوم الواحد بدلاً من السبعة أيام أو الثلاثة، يعود سبب ذلك بحسب مختصين إلى الحروب والنزوح فضلاً عن جائحة كورونا، وصولاً إلى الضائقة الاقتصادية. ففي أحد أحياء بغداد القديمة، مرّت جنازة بهدوء لافت، لم تعلُ أصوات النساء، ولم تُنصب سرادق العزاء المعتادة، واكتفى أبناء الفقيدة بمنشور على "فيسبوك" يحمل عبارة مقتضبة: "انتقلت إلى رحمة الله تعالى الحاجة سميرة العاني.. نسألكم الفاتحة والدعاء".
العزاء الإلكتروني في العراق
يقول الخمسيني محمود عبد الكريم (أبو عمار)، عقب فقد والدته، لـ"العربي الجديد"، إن "الجنائز في العراق لطالما كانت مناسبة اجتماعية كبرى، تمتد أيامًا وتجمع الأقارب من أقصى البلاد، حتى غدت جزءًا من النسيج الاجتماعي والثقافي، ولكن منذ تفشي الجائحة، ثم تراجع الوضع الاقتصادي، بدأت هذه الطقوس تأخذ أشكالًا مختلفة، اختُزلت الجنازات إلى صلوات مختصرة، والعزاءات إلى رسائل وتعليقات عبر التطبيقات". ويتابع: "كنت أتمنى أن أُقيم لوالدتي مجلسًا يليق بذكراها، لكني لم أستطع حتى تأمين مصاريف الطبخ للقادمين، دفناها بهدوء، واقتصرنا على إعلان بسيط عبر الواتساب".
وتوضح إيمان خليل (أم عبد الله) ذات الأربعين عامًا، خلال حديثها لـ"العربي الجديد": "حتى العزاء لم يعد كما كان، في الماضي كان الحضور واجبًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا، لا يُقاس بما تحمل بيدك، بل بما تحمله في قلبك من مواساة. اليوم، تحوّل إلى مناسبة اجتماعية تحمل أعباء مادية ونفسية نخشى أن يُنظر إلينا كأننا مقصرات إذا لم نقدم شيئًا، حتى لو كنا في ضيق حال". تضيف: "في منطقتنا، صار من النادر أن ترى النساء يشاركن في الدفن، ليس لأنهن لا يردن، بل لأن الجو تغيّر، بعض العائلات تفضل اختصار الموقف، وأحيانًا يقال بشكل غير مباشر إن حضور النساء ليس ضرورياً. وهذا يجعلنا نتراجع، حتى لو أردنا الوقوف مع أهل الفقيد".
زيوني: "الدفن كان مناسبة دينية واجتماعية مهمة، الآن نرى عائلات تطلب أبسط تجهيز ممكن، دون مراسم أو خطيب، فقط للضرورة"
يقول الشيخ أحمد الأوسي لـ "العربي الجديد"، إن "طقوس مجالس العزاء الحسيني مرّت بتحولات ملحوظة خلال السنوات الأخيرة، وهذا يعود لعوامل متعددة، من بينها تغير إيقاع الحياة اليومية، وتأثير التكنولوجيا، وحتى التحديات الأمنية والاقتصادية في بعض المناطق، ففي السابق، كانت المجالس تمتد لساعات طويلة، وتقام على مدى عشرة أيام أو أكثر، وكانت تحوي على جوانب متعددة: من الخطب الدينية المفصلة، إلى القصائد والمواكب، وخدمة الطعام، وغيرها من مظاهر العزاء التي تعكس عمق الارتباط العاطفي والديني بالإمام الحسين عليه السلام. ويضيف: "اليوم باتت المجالس أقصر، وأكثر تركيزاً، وغالباً ما تُنظَّم لتناسب ظروف العمل والدراسة، فتراها تمتد لساعة أو أقل. حتى مضمون الخطاب الديني تغير؛ أصبح أكثر مباشرة وارتباطاً بالقضايا المعاصرة، وهو أمر إيجابي من جهة، لكنه يحمل خطر فقدان بعض الأبعاد الروحية والتأملية التي كانت تميز المجالس القديمة".
الملقب زيوني أحد العاملين في تجهيز "خيام العزاء" يقول لـ"العربي الجديد"، إن "تكلفة تجهيز مجالس العزاء "الخيمة"، أصبحت تكاليفه باهظة الثمن من ناحية تأجير الخيام، والطعام، والكراسي، فضلاً عن تجهيزات الإضاءة والصوت، باتت هذه المصاريف عبئًا على كثير من العائلات. بعضهم أصبح يدفن دون إعلان، ويتلقّى العزاء بصمت. مشيرًا إلى أن "الدفن كان مناسبة دينية واجتماعية مهمة، الآن نرى عائلات تطلب أبسط تجهيز ممكن، دون مراسم أو خطيب، فقط للضرورة".
ويرى الباحث الاجتماعي عادل الشمري أن هذه التحولات ليست مؤقتة، ويقول لـ"العربي الجديد"، إن "العزاء كان يُمارس كطقس جماعي لإعادة إنتاج التضامن الاجتماعي حين يُختصر إلى منشور أو رسالة، نحن أمام تغير في البنية العاطفية والرمزية للعائلة العراقية"، مبينًا أنه "في ظل هذه المتغيرات، يظهر جيل جديد لم يعش التجربة التقليدية للموت والعزاء، وقد لا يعرف يومًا معنى "الخروج مع الجنازة" أو "بيت العزاء". ويتابع: "قد تكون هذه التحولات جزءًا من تكيّف طبيعي مع الظروف، لكنها أيضًا تعكس فقدانًا لجزء عميق من الثقافة الجمعية ففي السابق، كانت مجالس العزاء مدرسةً للتعاطف والتضامن، مساحة يتقاسم فيها الناس مشاعر الفقد، ويتبادلون العزاء في حضرة المكلومين، أما اليوم فيبدو أن هذه الأدوار قد تراجعت أمام موجة من التغيرات الثقافية والاجتماعية فالتعزية لم تعد واجبًا وجدانيًّا بقدر ما باتت شكلًا من أشكال "الحد الأدنى من التضامن"، يؤديه البعض وكأنهم يُسقطون عن كاهلهم واجبًا ثقيلًا.
