"لعنة لبنان" لمحمد أبي سمرا.. التكرار الذي لا ينتهي

5 days ago 4
ARTICLE AD BOX

في "لعنة لبنان"، الصادر عن دار "رياض الريس"، تتوارد في مستهل الكتاب لفظتا "الاجترار" و"التكرار". نحن هكذا أمام مصطلحين نافذين في وصف الراهن اللبناني، لا يخرج التاريخ الحالي للبنان عنهما، وإذا أضفنا إليهما نظام الحرب الأهلية، المقتبس عن وضاح شرارة، نجد أنفسنا أمام تاريخ لا يملك أي مقوم سوى هذه الإعادة المتواترة، التي لا يبقى لها سوى هذا الافتقار لأي امتياز وأي اختصاص.

إننا هكذا أمام ما يشبه أن يكون نوعاً من لا معنى سحيق، ضرباً من انعدام غالب، من زمن بلا وقت ولا ميعاد، من حراك يشبه اللعب واللهو، وبالطبع لا ينتج عنه سوى عبث بحت. تكرارٌ واجترار ليسا سوى استفراغ كامل، سوى رتابة قاتلة، سوى درجة عليا من الانعدام.

هكذا نحن، في آن معاً، نواجه لا جدوى غالبة، بؤساً مقيماً، وسخفاً بلا حدود. يبدأ محمد أبي سمرا من سيرته الخاصة، هذه السيرة النموذجية، إذ إنني أقرأها، ويقرأها أمثالي، ليجدوا فيها، إلى هذا الحد أو ذاك، أنفسهم. يتكلم واحد من النخبة، لا يفاجئنا أن نعلم أنه كان في "منظمة العمل الشيوعي"، نحن أيضاً كنّا مثله، تلك تجربة تكاد أن تكون فريدة، لكنها مع ذلك لا تجد مكاناً في مجتمع لا نخرج فيه عن التكرار والاجترار، سوى شلل يغرق في ما يشبه اللاوعي. في مثال مواز، لن تكون التجربة هكذا سوى دعوى لا تختلف عن العمق السائد، إلا بادعاء لا يقل جموداً ولا جدوى، بل يمكننا هنا أن نجد صدى آخر للاجترار، أو أننا هكذا أمام اجترار خاص، وفي كل الأحوال نبقى في اللعبة ذاتها.

تاريخ لا يزال إلى الآن بحثاً وصناعة وترسيمات مسبقة

نقرأ "لعنة لبنان"، فنجد لبنان كله، حروبه الأهلية، جماعاته وطوائفه، الخارج فيه والداخل. نقرأ هكذا العقود الأخيرة فيه، نقرأ ما يتراكب ويتداخل ويتواجه ويَعِسّ ويهمد، ننتقل بين هذا كله، لكننا مع ذلك لا نقرأ تاريخاً بحتاً، ولو أننا طوال القراءة نتجول في تاريخ نعرفه عن ظهر قلب.

محمد أبي سمرا ليس مؤرخاً إلا بمعنى آخر، إنه التاريخ حقاً، لكنه ليس سرداً من فوق، ليس سطحه ولا وثيقته، ليس أخباراً ولا محاكمات. يبدأ محمد أبي سمرا من نفسه، لكنه سيتابع آخرين، التاريخ هكذا مرئي من الأسفل، مرئي ليس في أحداثه الكبرى ولا في أركانه الرئيسية المُعلنة، إنه تحت، حيث الحوادث ليست قائمة بذاتها، حيث الحوادث ليست أخباراً بعد ولا تواريخ. 

الأحداث لا تقع بوصفها أحداثاً، إنها تقع ككتل وكجماعات وكنواح وكَلَحظات. ليس هذا فحسب، الحوادث هذه تقع كأفراد، إنها تتحول إلى جزئيات، إلى تفاصيل، إلى لقطات ومشاهد، إلى أشخاص، وإلى سير خاصة. نحن هنا لسنا، على الإطلاق، في مبحث ودراسة، لسنا أمام تاريخ مدرسي لا يزال مدرسياً، وما زال يحتاج إلى أرض، وإلى عمق، وإلى يوميات وتفاصيل. لسنا في تاريخ لا يزال إلى الآن، بحثاً وصناعة وترسيمات مسبقة، وادعاء نهايات وخلاصات، وإضفاء معانٍ من خارج البحث. ما يكتبه محمد أبي سمرا غير ذلك، إذا كان يبدأ من نفسه فلكي يتابع ذلك في بقية الكتاب.

التاريخ هنا ليس رواية من أعلى، ليس أحداثاً قائمة بذاتها وكيانها الخاص. أبي سمرا يبحث عن التاريخ حيث هو عياناً ومباشرة، حيث يصادفه في لحظاته ولقطاته وتشخيصاته وصغائره وتفاصيله وأفراده. أي أن الحروب والنزاعات والاشتباكات، وهي مسار هذا التاريخ، لا تبقى هنا بعناوينها، التي يسهل أن تتحول إلى مَثَل وعِبَر وشعائر وشعارات وخلاصات.

ما يفعله أبي سمرا في كتابه أقل من ذلك وأبعد منه. الحروب هي أيضاً مقاتلون وهي المقتولون، لكنها أيضاً العابرون والمراقبون والواقعون، من بعيد أو قريب، من أقرب أو أدنى، في غمارها. الحرب هي هنا هذه القدرة البالغة على إنتاج قصص وظروف وعلاقات وأشباه.

كتاب محمد أبي سمرا هو، من هذه الناحية، رواية، بل قصص من الأرض، من القاع، من الواقع السفلي، من الحدث، وهو يتوزع إلى أشخاص، إلى مشاهد ولقطات وأفراد ولحظات. هنا نجد العلاقات وهي تتجسّم وتتقاطع وتتشابك وتتوزع، إلى مزيد من الأخبار، مزيد من الحكايا. هنا لن نؤرخ بقدر ما نعيش ونرى الوقائع أشخاصاً ومشاعر ولقطات، نراها وقد تحولت إلى حياة، وإلى زمن جارٍ، وإلى دقائق وساعات.


* شاعر وروائي من لبنان

Read Entire Article