ARTICLE AD BOX

<p>لوحة تمثل مشهداً من "معركة لينيانو" (موسوعة الفن الكلاسيكي)</p>
حتى وإن كان النوع التاريخي من الأعمال الأوروبية، كما كانت رائجة عند أواسط القرن الـ19، هو الأكثر قدرة على اجتذاب الجمهور العريض لهذا الفن، ولا سيما في إيطاليا في زمن كان فيه جوزيبي فيردي (1813 – 1901) هو السيد الذي لا ينافس في هذا المضمار إيطالياً في الأقل، فلا شك أن الجمهور الذي كان يتابع هذا الفن في إيطاليا، ولكن في كل أنحاء أوروبا، كان يستطيع أن يقول كلمته ويفرض تفضيلاته تبعاً لذائقته الفنية. ومن هنا، إذا كان هذا الجمهور، وفي إيطاليا تحديداً، قد منح ثقته المطلقة لفيردي فبات هذا الأخير أيقونة وطنية جابهت فيه موسيقى هذا البلد تلك الاندفاعة الألمانية التي مثلها فاغنر الذي لا يضاهى، فإن هذا الجمهور نفسه عرف في بعض الأحيان كيف "يرفع البطاقة الصفراء" – بل أحياناً، حتى "البطاقة الحمراء" – في وجه موسيقيه المفضل، حين كان يخيب أمله عبر عمل له من هنا وآخر من هناك.
ومن هنا ما حدث خلال العقد الخامس من القرن الـ19 حين أدهش فيردي العالم وجمهوره دهشة سلبية بفعل إخفاقات له متتالية حملت حينها عناوين لا بد لنا أن نستغرب كونها حصدت في مسيرته الفنية إخفاقاً تلو الآخر. وكانت عناوين بعضها استعادت لاحقاً مكانة لا بأس بها، فيما طوى النسيان البعض الآخر. ولعل الإخفاقات الكبرى كانت في ذلك الحين من نصيب ثلاثة أو أربع أوبرات كان فيردي يعول عليها كثيراً، وعلى رأسها "معركة لينيانو" التي كانت عروضها الأولى أوائل عام 1849 في روما. وفي ذلك السياق يمكننا القول إن "معركة لوغانو" قد تساوت في الإخفاق مع ثلاثة أو أربعة أعمال أخرى لفيردي، مثل "جوانا داركو"، و"هرناني"، و"اللومبارديون". غير أنها تفردت بكونها الأكثر إخفاقاً واحتاجت للغياب عقوداً قبل أن تستعيد شيئاً من مكانة كان فيردي يراها من حقها.
حب وحرب وعواطف خفية
سوف يقال لاحقاً على أية حال إن الموسيقى التي وضعها فيردي لهذه الأوبرا لم تكن بالسوء الذي تبدى أول الأمر. أما ما هو سيئ فيها فكان المبالغة الفردية في الربط بين الحب والحرب من دون موقع وسط بينهما. فكل من هذين وصل إلى ذروة تعبيرية دون أن يوجد ما يبرره سوى رغبة الموسيقى النابغة في أن يجعل موسيقاه معبرة عنهما على قدم المساواة، إلى درجة تنتفي معها لحظات تبرر ذلك الربط فيحدث انتقال من الحب إلى الحرب، والعكس بالعكس، يصعب استيعابه بالنظر إلى أن فيردي كان واثقاً من جمهوره، كما من قدرة هذا الجمهور على متابعته بوضوح حتى في لحظات انتقاله المباغت بين الحالين.
ولكن الجمهور لم يرَ ذلك وبدا، في الأقل في العروض الأولى، غير قادر على توقع ما الذي ستكون عليه اللحظات التالية حتى وإن كان قد سحر دائماً بالتوزيع الموسيقي والميلودرامات وحتى بالغناء الجماعي المعبر، إما عن وطنية مطلقة، وإما عن عواطف فردية صاخبة يفعل فيها الغناء الجماعي فعل الكورس في التراجيديات الإغريقية القديمة. ولنقل هنا على أية حال أن الموضوع نفسه، كان يتيح ذلك، لكنه بدا أمراً لم يستعد الجمهور الفيردي له حتى وإن كان سيستسيغه في أعمال تالية للمبدع نفسه. أما في ذلك الوقت المبكر فكان جديداً أن يستوعب الجمهور فناً مبدعاً يخوض السياسة إلى هذا الحد في تعبير وطني بامتياز، لكنه ينحي السياسة جانباً حين يشرع في التعبير عن... الحب.
عودة الحبيب الغائب
تدور أحداث "معركة لوغانو" نحو عام 1176 من حول أحداث عسكرية حقيقية عاشتها منطقة ميلانو بين تلك المدينة نفسها ومنطقة بحيرة كومو، وتبدأ مع احتفال سكان المنطقة اللومباردية بانتصارهم على فردريك باربيروسا. وخلال الاحتفال يفاجأ رولاندو قائد اللومبارديين بعودة صديقه الوفي ريغو الفيروني بعدما كان قد أعتقد أنه قتل في المعركة وهو يحارب إلى جانبه. خلال لقائهما سنلاحظ كيف أن ليدا زوجة الدوق رولاندو تقف ساهمةً في منأى من المحتفلين. والسبب سنفهمه بعد قليل. فهي إذ تناهى إلى مسامعها خلال القتال أن آريغو قد قتل، تغرق في حزن غامر لأن آريغو كان حبيبها منذ بداية صباهما. والآن إذ أكدوا لها خبر موته، ها هي تجد نفسها زوجة للدوق حتى وإن بقيت لأسباب لم يدركها الزوج نهباً للشجن والحزن لفقدان حبيبها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والآن إذ عاد الحبيب بعدما تبين أنه لم يمت، ها هو الحزن والارتباك يغمرانها. ولكن ما يزيد في تفاقم حالتها، ذلك الأسير المقاتل الألماني الذي يدعى ونخ ماركوفالدو، الذي يلاحقها بإعجابه الموله بها وبإصراره على الارتباط بها وهو العارف بحقيقة ما تعانيه، والعازم الآن على استغلال أوضاعها كي يجد لنفسه سبيلاً، إن لم يكن إلى قلبها، ففي الأقل إلى حياتها، غير آبه بكونها زوجة الدوق. فالدوق عدو وللأسير الحق في أن ينتقم من عدوه. وماركوفالدو في تتبعه لليدا يكتشف ذات لحظة أن ثمة لقاء غامضاً يجمعها بحبيبها القديم العائد.
ليدا تحت ضغط متفاقم
خلا ذلك اللقاء يفاتح كل من الحبيبين حبيبه بأشجانه ويذكر آريغو ليدا بوعود الوفاء التي كانت قد قطعتها وعوداً أبدية، آخذاً عليها أنها لم تنتظر عودته، لكنها تبكي وتعتذر متذرعة بـ"موته". وفيما هما على تلك الحال تتوارد الأنباء عن بدء الإمبراطور الألماني معارك جديدة ضد اللومبارديين توخياً للانتقام منهم والسيطرة عليهم. على الفور يبدي آريغو رغبته في المشاركة في قتال الألمان ضمن إطار كتائب الموت المندفعة، لكن اورلاندو يرجوه أن يبقى مع فرسانه الفيرونيين عند أسوار المدينة للدفاع عنها، موصياً إياه بأن يهتم بليدا ويرعاها إن حدث له هو أن قتل في المعركة التي يتوجه لخوضها. ومن الواضح أن ذلك الموقف الواثق بالصداقة من الدوق يمارس تأثيراً كبيراً على آريغو، لكن ماركوفالدو يكون هنا بالمرصاد فيبادر إلى الكشف للدوق عن حقيقة العلاقة الغرامية بين ليدا وآريغو.
وتستبد الغيرة بأورلاندو، ولا سيما أنه يفاجئ زوجته وصديقه وهما يلتقيان في الوقت نفسه الذي يكشف له ماركوفالدو ما كان يجهله عن علاقتهما. ولا يكون منها إلا أن يأمر حراسه باعتقال آريغو تمهيداً لمحاكمته بتهمة الخيانة، لكن آريغو يتمكن من الفرار متوجهاً إلى ساحة المعركة لمجابهة الإمبراطور باربروسا. وبعد حين تصل إلى ميلانو أخبار إلحاق آريغو وقواته الهزيمة بالإمبراطور، بل حتى خبر يقول إن آريغو تمكن من إسقاط الإمبراطور عن حصانه. غير أن السيئ في هذا الخبر أن آريغو قد أصيب بجراح قاتلة. ويحضر اللومباردين الجريح إلى حيث يرابط الدوق وزوجته. ويتمكن آريغو وهو يحتضر من إعلان براءة ليدا وإخلاصها لزوجها قبل أن يبدي هو رغبة أخيرة في معانقة صديقه، بينما يلفظ أنفاسه الأخيرة، رافعاً العلم اللومباردي كإشارة إلى إخلاصه للوطن والصداقة.
دلالات سياسية
من المؤكد أن في الحكاية التي نرويها هنا من دون موسيقاها وأدائها الفني، قدراً كبيراً من الديماغوجية القومجية. غير أن هذا الجانب من "معركة لينيانو" لم يكن هو بالطبع ما استفز الجمهور، بل كان ما استفزه خلط ذلك الجانب السياسي بحكاية حب وما شابه ذلك. وهنا على عكس ما يحدث عادة في مثل هذه الحالات، وبعد عروض أولى رجمت فيها هذه الأوبرا، تبدلت الظروف السياسية وتفاقم الصراع بين الألمان والإيطاليين بصدد الخلافات حول هيمنة الألمان على مناطق الشمال الإيطالي، فكان ذلك إيذاناً باستعادة "معركة لينيانو" قيمتها السياسية الكبرى – مع نسيان حكاية الحب التي يشغلها! - وتذكر الإيطاليون كيف أن هذه الأوبرا هي واحدة من اثنتين كرسهما فيردي للومبارديا – ثانيتهما هي تحديداً، "اللومبارديون" – ومن هنا حدث خلال تظاهرات سياسية غاضبة ضد الألمان أن رفع المتظاهرون لافتات عريضة تنادي بحياة "فيردي بطل القومية الإيطالية"، ورأى كثر في ذلك انتصاراً قاطعاً لفيردي على ريتشارد فاغنر، ولو لمجرد أن هذا الأخير ألماني.