ARTICLE AD BOX
حين يلتقي قرابة ستمائة عالم وباحث ومهتم للحوار حول أيّ موضوع، توافدوا من أكثر من 50 دولة، فهو حدث استثنائي بكلّ المقاييس، إلا أنّ الموضوع هذه المرّة ليس أيّ موضوع عابر ولا جديد، بل هو في صميم العلاقة بين الشرق والغرب. موضوع لطالما شكّل (لدى كثيرين) لبّ العلاقة المعقّدة بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، وهو موضوع نظرة الغرب إلى الشرق خلال القرنين الأخيرين، والذي اختُزل تعريفه تحت مصطلح "الاستشراق". وكان واضحاً من كلمة الافتتاح لرئيس المؤتمر ووزيرة التربية والتعليم والتعليم العالي في قطر، لولوة الخاطر، حين أكدت "أن لحظة ولادة هذه الفكرة كانت في العام 2021 عندما اجتاحت أوروبا والدول ذات الأغلبية المسلمة موجة من الأحداث والاحتجاجات تمحورت حول الإساءة للرموز الدينية الإسلامية وما تلاها من ردود أفعال وأحداث." وتؤكد الوزيرة أن الفكرة "لم تكن في الأصل معنية بمؤتمر حول الاستشراق بل بدأت بفكرة إطلاق مساحة حوارية منفتحة تجمع الشرق والغرب لتفكيك ما بدا أنه حالة من الحرب الهوياتية والثقافية وليس مجرّد أحداثٍ منفصلةٍ تسبّبت في ردود فعل آنية." ومع ذلك، استقرّ الأمر على أن ينعقد المؤتمر تحت عنوان "المؤتمر الدولي للاستشراق"، ولعل التعريف لمصطلح الاستشراق ذاته، وهو "دراسة الشرق للغرب"، وأن الاستشراق يشكّل "وعي الغرب تجاه الشرق"، يجعل البحث عن عنوانٍ آخر غير مجدٍ لمناقشة "حالة الحرب الهوياتية والثقافية" الممتدة عبر القرنين الأخيرين على الأقل.
لا يمكن أن يبدأ أي حديث أو حوار حول الاستشراق من دون المرور على الكتاب الشهير للراحل إدوارد سعيد "الاستشراق" (1978)، فبرغم قِدم المصطلح من حيث الاستخدام، إلا أنه اشتُهر مصطلحاً نقدياً بعد الكتاب. ويلخّص سعيد الاستشراق أنه دراسة المجتمعات الشرقية وتصويرها غريبة، متخلّفة، وغير متحضّرة، وجامدة، مقارنة بالغرب العقلاني والمتطوّر والحركي. بل وتُبَرّر الحقبة الاستعمارية ذات مقصد نبيل، إخراج الشعوب الشرقية من تخلّفها وجهلها وجمودها إلى اللحاق بالغرب وحداثته. وللخوض في هذا الموضوع تبعاته، إذ قد يبدو أكاديميّاً معرفيّاً بحتاً، إلا أنه لا يخلو من مناقشات سياسية واقتصادية واجتماعية، كما سنرى. ومن هنا، تأتي نقطة انطلاق المؤتمر، حيث يرى منظّموه بأنه آن الأوان لتجاوز ثنائية "الغرب/ الشرق"، حيث عالم اليوم أكثر تداخلاً وانسياباً من الماضي، وأنّ تعريفات ما هو الشرق وما هو الغرب لم تعد واضحة كما كانت عليه، نتيجة لتقارب الزمان والمكان، وعولمة المعرفة والتجارة والاقتصاد.
آن الأوان لتجاوز ثنائية "الغرب/ الشرق"، حيث إنّ عالم اليوم أكثر تداخلًا وانسيابا من الماضي
أخطّ هذه العبارات والانطباعات، وأنا أحمل مزيجاً من التجارب الشخصية، كعربي مسلم نشأ وعاش جزءاً من طفولته وكلْ ما تلاها من دراسة وعمل وحياة، في بلد أوروبي له تاريخه الإمبراطوري الذي طغى فترة طويلة على كثير من أجزاء العالم الإسلامي، بل العالم. فتجربتي ونظرتي إلى بلد المستشرقين الأول، بريطانيا (إلى جانب المدرستين الفرنسية والأميركية) جعلتني أقتنع بعدّة أمور، منها أن المجتمعات الغربية السائدة على العالم أنتجت أجيالاً من المستشرقين عاشت وتعيش ما أسماه المفكر الأروغوائي إدواردو غالينو بـ System Amnesia، النسيان (وربما العمى) المُنظّم، حيث يرى أو يتذكّر المستشرق الغربي ما يريد، وينسى ويتغاضى عما يريد أيضاً. ومن خلال هذه الانتقائية المقصودة عند معظم المستشرقين في حقبة ما سمي "الاستشراق التقليدي"، بُنِيَت الصورة النمطية للشرق، والذي حاول المؤتمر أن يجعله أوسع من الشرق العربي المسلم، ويشمل أفريقيا وجنوب وشرق آسيا أيضا. كما حاول المتحاورون أن يتجاوزوا حقبة الاستشراق التقليدية، ويركّزوا على "الاستشراق الجديد"، وهو عنوان المؤتمر، إلا أنّ المشارك لم يكن ليخطئ ظلال المستشرقين التقليديين الذي كان يخيّم على مداولات المؤتمر.
أسئلة الحوار
من علامات نجاح أيّ حوار تحديد الأسئلة التي يجب أن تشكّل محاور اللقاء، إذ بتحديدها يمكن الحكم على نجاح المتحاورين بالتعاطي معها وما تفرزه الأوراق المطروحة ونقاشاتها من نتائج، التي ليس بالضرورة أن تكون ردوداً على الأسئلة بقدر ما هي إثراء للمواضيع المثارة وتحديد أيّ تحدياتٍ يجب أن تُأخَذ حقّها بمزيد من البحث والدراسة. وقد حدّد المؤتمر ستة أسئلة شكلت المحاور الرئيسية لكل جلسة من جلسات الحوار ال16 في يومي المؤتمر: ما الذي استجد في الدراسات الاستشراقية تجاه الإسلام والعالم العربي؟ ما أشكال الاستشراق الجديد واتجاهاته ومناهجه؟ كيف ستنعكس مرحلة ما بعد العولمة والمركزية الأوروبية على مسارات خطاب الاستشراق؟ إلى أي مدىً لا يزال الاستشراق الجديد يسهم في صناعة القرار الغربي بماذا يفترق الاستشراق في الشرق عن نظيره الأوروبي؟ ما مستجدّات الاستشراق بعد الثورة الرقمية؟
تطرح هذه الأسئلة وبإلحاح (وهي نبيلة المقصد) ضرورة الخروج من قفص الاستشراق التقليدي الذي نقده إدوارد سعيد، واستمرّ بإلقاء ظلاله على المؤتمر والحوارات المختلفة. ولعل من المفيد هنا تقديم طبيعة هذا الاستشراق الذي غطى معظم القرنين الماضيين لنستطيع التمييز بينه وبين ما يقصد بـ "الاستشراق الجديد".
الاستشراق التقليدي
وبحكم أنّ اليومين قُسِّما إلى أربع فقرات وفي كلّ واحدةٍ أربع جلسات موازية، لم يتسن، بطبيعة الحال، لأيّ مشارك مثلي حضور أكثر من أربع جلسات حوارية، بالإضافة إلى الفقرات الرئيسية في أثناء جلسات الافتتاح والختام، فبالنسبة لسؤال ما الذي استجد في الدراسات الاستشراقية تجاه الإسلام والعالم العربي؟ كان لابد من التقديم بعرض شديد الاختصار للاستشراق التقليدي، فطغيان المفكرين المستشرقين خلال حقبة الاستشراق التقليدية التي رسمت معالم الشرق في المخيلة الغربية مثل إدوارد وليم لين (1801–1876) المعروف بكتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم"، وإرنست رينان (1823–1892) العالم الفرنسي الذي عمل على اللغات السامية وكان له تأثير كبير في تشكيل وجهات النظر الأوروبية حول الشرق الأوسط، ولويس ماسينيون (1883–1962) العالم الفرنسي البارز في دراسة الإسلام، خاصة التصوّف، وهاملتون جيب (1895–1971) المستشرق البريطاني الذي عمل على تاريخ الإسلام والأدب العربي، والمثير للجدل طبعاً برنارد لويس (1916–2018) المؤرّخ المؤثّر في تاريخ الإسلام والشرق الأوسط. ولعل من أكثر المؤثرين الذين نقلوا الصورة النمطية عن العالم الإسلامي (الشرق) الفنانون الذين أنتجوا تلك الصور والرسومات، المتمثّلة باللوحات الفنية، لمشاهد هي التي أرادوا نقلها للمشاهد الغربي. فمثلا، بحث بسيط في موسوعة ويكيبيديا يظهر ما يقارب ثمانمائة فنان (خصوصاً منهم الفرنسيون والبريطانيون والإيطاليون والألمان) قدّموا كمّاً هائلاً من اللوحات الفنية التي كوّنت الصورة النمطية للشرق لدى الجمهور الغربي. حيث يُقدّر أنّ عشرات الآلاف من اللوحات ذات الطابع الاستشراقي أُنتجت خلال القرن التاسع عشر وحده، كانت هذه الأعمال تُعرض في صالونات أوروبا ومعارضها. وكانت موضوعات هذه اللوحات في الغالب تدور حول الحريم، الأسواق، الراقصات، البازارات، المشاهد الصحراوية، والاحتفالات الدينية، وقد ركّزت غالباً على عناصر الغرابة والجمال الحسّي، ما أسهم في إيجاد صورة نمطية عن الشرق باعتباره مكاناً جامداً، غرائبيّاً، وعاطفيّاً. فمن أبرز هؤلاء الفنانين جان ليون جيروم (Jean-Léon Gérôme)، ولودفيج دويتش (Ludwig Deutsch)، وغوستاف بولانجيه (Gustave Boulanger)، و فاسلي فيرِشاجين (Vasily Vereshchagin، وجون فريدريك لويس (John Frederick Lewis، فمما يذكره نقاّد الاستشراق، مثلاً، تلك اللوحة التي رسمها الفنان جان أوغست دومينيك إنجرس عام 1862، "الحمام التركي" (La Bain turc)، رغم أن إنجرس لم يزر الشرق بنفسه، فقد رسم هذه اللوحة بناءً على خيالاته عن الشرق، وجسّدت الصورة النمطية الغربية عن الشرق مكاناً للجمال الحسّي والغموض والترف الجنسي.
يرى أو يتذكّر المستشرق الغربي ما يريد، وينسى ويتغاضى عما يريد أيضا
تظهر النساء في اللوحة في وضعية استرخاء داخل الحمام، وهو تصوير بعيدٌ عن الواقع الاجتماعي الحقيقي، لكنه أصبح رمزاً للنظرة الغربية "الخيالية" للشرق. لوحة أخرى شهيرة في هذا السياق هي "السوق العربي للرقيق" (The Slave Market) لجان ليون جيروم. تجسّد هذه اللوحة بشكل صارخ صورة الشرق مكاناً للقهر والغرابة والأنثوية المسلوبة الإرادة، وهو ما عزّز الصور النمطية حول المجتمعات الإسلامية والعربية. اللوحتان (إضافة إلى أعمال مشابهة من لودفيج دويتش وغوستاف بولانجيه) مثالان واضحان على الاستشراق الاستعراضي الذي يدمج بين الخيال الأوروبي والاستعمار الثقافي. ويجدر الإشارة هنا، للتأكيد على طبيعة الاستشراق أنه مشروع سياسي كما هو معرفي، حين نرى الحزب الألماني البديل من أجل ألمانيا (AfD)العنصري المتطرّف يستخدم لوحة جان جيرون "السوق العربي للرقيق" في دعايته الانتخابية الأخيرة لعام 2025، ليرفع من هجومه على المهاجرين العرب والمسلمين، ويدعو إلى طردهم، حيث يزعم إنه إذا لم يتم ذلك فسينتهي المطاف بأن يحوّل المسلمون العرب الألمانيات إلى رقيق يباع في الأسواق. فإذا كانت هذه هي الصورة النمطية التي رسمها المستشرق الغربي، كُتَّابه وفنّانوه، والتي ثبّتت ولا تزال، الصورة النمطية للمجتمعات الشرقية، فما الجديد المخالف الذي أتى به الاستشراق الجديد ويستحق الإشادة؟ وماذا قدّم المؤتمر في هذا الجانب، خاصة في تعريف ما سمّي "الاستشراق الجديد"؟
الاستشراق الجديد
أكّد مؤتمر الدوحة المؤكدّ. إذ، وكما ذكر كثيرون فيه، وبرغم بروز بعض الأصوات أمثال جون إسبوزيتو، المعروف بدراساته حول الإسلام السياسي والعلاقات الإسلامية الغربية، ويُعدّ من الأصوات المعتدلة التي ترفض الصورة النمطية للإسلام دين عنف، وولفرد كانتويل سميث الذي ركّز على العلاقة بين الدين والتاريخ، وكان يؤمن بأن الإسلام يجب أن يُفهم من خلال عيون المسلمين أنفسهم، لا من خلال عدسة غربية فقط. ولا نغفل كذلك كارين آرمسترونغ، الكاتبة الغربية المؤثّرة التي تناولت الإسلام بشكل خاص بأسلوب متعاطفٍ وإنسانيٍّ بعيد عن التحيّز، فبرغم هؤلاء، يكاد المؤتمرون أن يجمعوا (بحسب متابعتي ما تمكّنت من حضوره من مداولات وحوارات) أنّ الاستشراق "الجديد" لا يكاد يعدو من أنه انتقل من العمل الفردي الناتج عن علماء وفنانين خرجوا من مدارس الغرب ذات المنطق الاستعماري الاستعلائي، إلى ما تسمّى مراكز التفكير Think Tanks، والتي أصبحت تصمّم دراساتها، تلبية لما يطلبه صانع القرار في الحكومات الغربية والشركات والمنظمات، أو تشكيلاً للرأي الذي يضغط على صانع القرار.
ومن المهم هنا أن نقف عند تحذير الناقدين ما يسمّى "الاستشراق الجديد"، ومنهم علي بهداد وجوليت ويليامز (Ali Behdad and Juliet A. Williams)، إذ يقولا: "بينما يُشير مصطلح الاستشراق الجديد (neo-Orientalism) إلى تحوّل في خطاب الاستشراق يمثّل شكلاً مميّزًا وجديدًا من بعض النواحي، فإنه مع ذلك ينطوي على تكرارات خطابية معينة واستمراريات مفهومية مع سابقه. فعلى سبيل المثال، مثل نظيره الكلاسيكي، فإنّ الاستشراق الجديد خطاب أحادي الكتلة، شمولي، يعتمد على منطق ثنائي، ويرتكز على افتراض تفوّق أخلاقي وثقافي على "الآخر الشرقي". وللتعبير عن ذلك بشكل أكثر إيجازاً، ينبغي فهم الاستشراق الجديد ليس حالة فريدة بحدّ ذاتها (sui generis)، بل إضافة إلى الأنماط المستمرّة للتمثيل الاستشراقي".
علينا الاعتراف بأنّ العالم العربي والإسلامي، بل الشرق عموماً، لم يكن في أحسن حالاته عند بزوغ العصر الاستعماري
ولعل ما أبرزه رئيس اللجنة العلمية للمؤتمر، محمود الحمزة، وبعد شرحه تطوّر مفهوم الاستشراق، الذي كانت غاياته الأولى التمهيد للاستعمار في البداية، وبرغم التفاؤل ببروز باحثين من أصول شرقية في الأوساط الأكاديمية الغربية، بالإضافة إلى ظهور التكنولوجيا الحديثة والثورة الرقمية والمعرفية التي انتزعت احتكار الغرب لدراسة الشرق، فقد نبّه إلى أن "الاستشراق الجديد لم يختلف من حيث الجوهر عن الاستشراق التقليدي" حيث لا تزال معظم الأبحاث الحديثة تعمل لخدمة جهات حكومية أو شركات اقتصادية كبرى تمول الأبحاث، ذات المصالح الواسعة في بلدان الشرق. ففي ظلّ هكذا توجهّ مستمر ومقصود، إما مدفوعًا بالتمهيد للاستعمار العسكري، أو خادمًا لجهات حكومية واقتصادية تسعى للهيمنة الاقتصادية والمعرفية، فما الذي يمكن أن يحقّقه المؤتمر، والذي لا بد من الاعتراف والثناء على منظّميه بأنه يشكّل طموحاً مشروعاً ويكاد يكون متميّزا في "انتشال الاستشراق من دائرة التوتّرات الأيديولوجية والتحيّزات المسبقة إلى دائرة البحث العلمي الجاد الذي نطمح أن يؤسّس لتواصل بناء بين المجتمعات الإنسانية"، كما وصفه محمود الحمزة؟
ولعلي ألخص ما فهمت أنه نظرة تفاؤل من منظمي المؤتمر، في عصر"الاستشراق الجديد"، أنه بالأساس مرتكز على حالتين: الأولى، دخول بعض العلماء المسلمين في صميم المؤسسات الأكاديمية التقليدية الغربية والإسهام في تعدّي مرحلة النقد، إلى مرحلة الإنتاج المعرفي الذي قد يؤسّس لمرحلة من الإنتاج المعرفي "الاستشراقي" المعتدل، والذي يتعاضد مع الأصوات الاكاديمية والمعرفية الغربية التي بدأت في هذا الاتجاه أمثال من أشير إليهم أعلاه، مثل جون إسبوزيتو، أم الحالة الثانية فهي كسر احتكار تعميم المعرفة من خلال استغلال التكنولوجيا الجديدة العابرة للحدود.
هل آن الخروج من "الاستشراقفوبيا"؟
لخص علي بن إبراهيم النملة في الجلسة الحوارية الرئيسية الأخيرة المخرج الرئيسي للمؤتمر والتحدّي المستقبلي الأبرز، وهو وجوب التحرّر من الاستشراق، وأن علينا الخروج مما قد يوصف بـ "الاستشراقفوبيا". وأنا أؤيد هذه الدعوة لعدة أسباب. أولها أن علينا الاعتراف بأنّ العالم العربي والإسلامي، بل الشرق عموماً، لم يكن في أحسن حالاته عند بزوغ العصر الاستعماري، وأنّ هذه الأوضاع، ابتداء من القرن السابع عشر، قد خدمت المستشرق في معظم الحالات. وما علينا سوى الرجوع إلى ما كتبه ثلة من العلماء المسلمين عن تلك الفترة، مثل شكيب أرسلان في كتابه "لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟"، وعبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد"، وكتابات جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ومالك بن نبي. عندها قد نجد بأن نتاج الاستشراق التقليدي (إلى حد كبير) ما هو إلا انعكاس لواقع متخلّف حقيقي، التقى مع هوى المستشرق الغربي وتوجّهاته. فمن الشجاعة الاعتراف بأوجه التخلّف التي عاشها المشرق، والتي شملت فيما شملت: التجمد العلمي، الركود الاقتصادي، الاستبداد السياسي، التعليم التقليدي، الجمود الفكري، مع انحطاط شديد في وضع المرأة.
ثانيا، رغم أن "نغمة" المؤتمر كانت الدعوة إلى تجاوز أطروحة الراحل إدوارد سعيد وثنائية الشرق والغرب، كما أشارت إليه رئيسة المؤتمر في كلمتها الافتتاحية، حتى "لا يقف تفكيكنا وطرحنا للاستشراق عند ما كتبه إدوارد سعيد وما أنتجته نظريات ما بعد الكولونيالية، وأن لا نمارس نحن أيضا الاستشراق معكوسا"، إلا أنّ المؤتمر، وبحرصه على الدعوة المشروعة إلى حوار متزن بين مكونات المجتمع الانساني، لم ألمس فيه (أو بتعبير أدقّ ما حضرته من مناقشات) الاعتراف بأنه لولا القاعدة النقدية التي وضعها سعيد وصرخته التي هزّت عالم الاستشراق، ربما لم تحدث المراجعات التي حصلت من قبل الكثير من مكوّنات المدرسة الاستشراقية الغربية. بل أن عام 1978 الذي صدر فيه كتاب "الاستشراق" (في نظري) يعدّ العلامة الفاصلة بين حقبتي الاستشراق التقليدي والاستشراق الجديد. ثم إني، وأنا الذي نشأت وترعرعت في دولة غربية استعمارية عريقة، أكاد أجزم بأنه، ولكي تكتب له فرصة النجاح، لا بدّ من أن يرتكز أي حوار على الندية وليس غيرها. ما ذا أقصد بهذا؟ أقصد، وكما تم التأكيد عليه من قبل بعض المشاركين، بأن أصل علم الاستشراق مبني على الاستعلاء الذي يمارسه الغرب تجاه الآخر. ولا يحصل التوازن وتصحيحه إلا عندما تحصل الندية المطلوبة بين الطرفين.
من أبرز نجاحات المؤتمر الأوّل للاستشراق، هو الحشد الضخم للعلماء والباحثين الشرقيين (مكانا أو انتماء) الذي يبشّر بصحوة علمية وفكرية ترسم صورة حقيقية وعادلة للمشرق الكبير
ثالثا، وهنا مربط الفرس، لكي تحصل الندية في الحوار يجب تحقيق أمرين هامين. أولا فتح مجالات الحوار في بيئة بعيدة عن مركزية المعرفة الحالية، وهي أوروبا والغرب عموما. وهنا تأتي أهمية مؤتمر الدوحة الدولي للاستشراق، حيث أن برنامجه ومواضيعه وطريقة الحوار التي تم تبنيها كانت بعيون وأياد مشرقية. وبالتالي، كان الحوار، في العموم، بناء على نظرة الشرق إلى عالم الاستشراق، وكانت الأسئلة الستة المطروحة مفتاحية ونابعة من حرص على "فكفكة" المفاهيم والمصطلحات بعيون شرقية. وهنا لا بدّ من شكر الوزيرة لولوة الخاطر (معروفة بمشاريعها الطموحة ومواقفها الجريئة) على تبنّيها ونجاحها في عقد المؤتمر والتأسيس لمنصّة نرجو أن تشكّل فضاء يسمح بالحوار الندي الهادف، بل ويشجّع الأصوات التي قد لا تجد فرصة لكي تُسمع فيما سواها من المنصّات التي يقع جلّها في الغرب. أما الأمر الضروري الثاني والأصعب، هو تكثيف الإنتاج المعرفي النابع من أبحاث تقوم "بعيون شرقية"، كما دعا إلى ذلك ولفرد كانتويل سميث. ولعل من أبرز نجاحات المؤتمر الأوّل هذا، هو الحشد الضخم للعلماء والباحثين الشرقيين (مكانا أو انتماء) الذي يبشّر بصحوة علمية وفكرية ترسم صورة حقيقية وعادلة للمشرق الكبير، وتستفيد من تكنولوجيا التواصل لتبلّغ الجمهور الغربي من دون الحاجة للوسائل التقليدية المُحتَكِرة للنشر والتسويق.
النقطة الأخيرة والخطيرة في أيّ حوار، ويجب تجنّبها، هي تفادي الوقوع في ورطة ما تسمّى "Echo Chamber" (غرفة الصدى)، وذلك حين يكون المتحاورون كلهم أو جلّهم من أصحاب التوجّه المتناغم، أو المدرسة الواحدة. هنا، لا يكون الحوار حواراً. وبالتالي، شعرت بأنّ المؤتمر (رغم الحضور النوعي) يفتقر الى الرأي الآخر، أعني الاستشراقي، أمثال توماس فريدمان Thomas Friedman، ومليس رثفن Malise Ruthven، أو مراكز الفكر أمثال American Enterprise Institute الأميركي، أو Policy Exchange البريطاني. فعندما نريد أن "نتحاور"، لا يكون ذلك ممكناً إلا عندما تكون أطراف الحوار ذات رؤى وأفكار متباينة. عندها فقط يمكن تحقيق ما ذكَرَته رئيسة المؤتمر، أن يصبح مثل هذا المؤتمر "مساحة حوارية منفتحة تجمع الشرق والغرب لتفكيك ما بدا أنه حالة من الحرب الهوياتية والثقافية... نحو فهم أعمق وتواصل أكثر توازناً بين الحضارات، بعيدا عن منطق الهيمنة والصور النمطية"، وهو ما يطمح إليه كلّ من يسعى لعالم يسوده التفاهم والابتعاد عن المعادلات الصفرية التي لا تأتي بخير.
ويبقى هناك تحدٍ رئيسي أمام طموح منظّمي المؤتمر والمشاركين فيه، وهو: كيف يمكن لمؤتمر كهذا أن يتجنّب الخوض في مداولات تضل حبيسة مفكريه وباحثيه وأوراقهم العلمية، وألا تكون "أقرب إلى المخطوطات السومرية القديمة التي ستبقى دولة بين المختصين دون بقية الناس؟"، وكما حذرت من ذلك رئيسة المؤتمر في كلمتها الافتتاحية. لعل الدورات المقبلة للمؤتمر أن تأخذ بالاعتبار هذه المعضلة التي طالما اعترت العمل الأكاديمي، وتعمل على إخراج مداولاته وحواراته الهامة حتى تصل إلى جمهور أوسع.
