ARTICLE AD BOX
أثارت تصريحات نُسبت إلى الرئيس السوري أحمد الشرع تساؤلاتٍ مشروعة بشأن رؤية النظام الجديد حيال خطر إسرائيل على سورية؛ فقوله مثلاً إن لدى سورية وإسرائيل "أعداءً مشتركين" غير مفهوم، فهل يعني ذلك الاستعداد للتعاون المشترك، وما دخل إسرائيل بالدور الأمني لسورية؟ واضح أن المسؤولين السوريين يتحاشون الإشارة إلى حرب الإبادة الصهيونية في غزّة، والأهم غياب موقف واضح من احتلال إسرائيل الجولان واعتداءاتها أخيراً على سورية، إضافة إلى غياب مفهوم الأمن القومي العربي في أحاديثهم، واللوم لا يقع عليهم حصراً، فهذا حال سائر الدول العربية وأنظمتها، فالنظام الجديد في سورية ولد في حقبة انهيار مفهوم الأمن القومي العربي، واستبدل بمفهوم "المصلحة القُطرية" وانطلاق عملية فك الارتباط العربي بالقضية الفلسطينية، وكأن التخلص من "عبء القضية الفلسطينية" صمام أمان يفتح باب الاستقرار والازدهار والسلام تحت الرعاية الأميركية.
ما نسمعه عن عودة سورية إلى "الحضن العربي" يعني أن عليها أن تقبل وتندمج في شرق أوسط جديد تبشّر به واشنطن، عماده الدخول في "المعاهدات الإبراهيمية" مع إسرائيل، التي كانت الإمارات أول من وقّعها عام 2021، وفتح سورية ومقدّراتها للشركات الغربية. وهنا لا بد من العودة إلى ما ورد في مقال نشر في "جويش جورنال" في 18 الشهر الماضي (مايو/ أيار) يلخّص ما يحدث من ربط لدخول الاستثمار الأجنبي إلى سورية وتشكيل الاقتصاد السوري وعلاقته بقبول إسرائيل.
لم تكن هناك مقابلة للصحيفة الصهيونية مع الرئيس السوري، بل مقال كتبه جوناثان باس، مالك شركة "أرجنت" الأميركية لنقل الغاز الطبيعي المسال، عن لقائه الرئيس الشرع ضمن وفد اقتصادي. ويتضح من المقال أن الوفد الأميركي ربط النقاش بشأن مستقبل الاستثمارات الأجنبية في سورية بموقف النظام الجديد من إسرائيل، وهذا في حد ذاته خطير؛ فقد سمح باس لنفسه بأن يطلب طمأنات حيال موقف دمشق من تل أبيب للمضي في محادثات بشأن تسلّم شركته خطة تطوير قطاع الغاز في سورية. ولفهم جدية هذا الربط المطلوب أميركياً، وأنه ليس مجرّد مصادفة، ضروري معرفة أن جوناثان باس صديق مقرّب من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وهو الذي أعلن رغبة الشرع في بناء "برج ترامب" في دمشق خلال اللقاء، الذي سهّله كما يقول "نشطاء سوريون"، لمناقشة فرص الاستثمار في سورية عشية جولة ترامب الخليجية. وعرض باس خطة تنفذها شركته "لتطوير قطاع الغاز في سورية"، انطلق بعدها في مقابلات مع محطات تلفزة أميركية، ليعلن بفخر واعتزاز خطته وكأنه مسؤول سوري أو منقذ للشعب السوري. ثم نشر مقاله في المجلة واسعة الانتشار في لوس أنجليس لطمأنة اللوبي الصهيوني وإسرائيل بأنه سمع من الشرع ما يطمئِن من موقفه حيال إسرائيل، وأنه لا تعاون مع دمشق دون التزام مصالح تل أبيب.
ليس المطلوب أن تعلن سورية حرباً على إسرائيل أو تهدّد بانتقام أو مواجهة، فأولويتها الحفاظ على نفسها وإعادة بناء الدولة والمجتمع السوريين
السؤال: لماذا يضع الرئيس السوري نفسه في هذا الموقف؟ وكيف يمكن توصيف الوضع بين سورية وإسرائيل "قصفاً متبادلاً يجب أن يتوقف"؟. إسرائيل دولة محتلة ومعتدية، فقد كان بإمكانه أن يكتفي بالقول إن سورية ملتزمة القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الذي أشار إليه في حال حدوث مفاوضات مع إسرائيل. وهنا لن أذهب إلى اتهام الشرع، كما يفعل بعضهم، بأنه وصل إلى السلطة على أساس قبوله التطبيع مع إسرائيل، ليس فقط لأنه لدي معلومات، بل لأن معظم الدول العربية لديها الموقف نفسه، حتى إن ترامب، بكل بساطة، طلب من الشرع الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية في قلب الرياض.
ما يحدُث ليس نتيجة عملية تطور سياسية طبيعية، بل يندرج تحت عنوانين: انهيار النظام العربي، والشروط المطلوبة أميركياً لقبول النظام الجديد في سورية تحت ضغط شروط رفع العقوبات الاقتصادية، وبخاصة الأميركية، عن البلاد، وهي شروط لا يتحدّاها النظام السوري، والأهم أنها لا تلقى مقاومة أو حتى معارضة تُذكر من الدول العربية والإقليمية (تركيا)، فالإقليم في مجمله دخل في ترتيبات فصل المصالح "القُطرية"، والأدق القول كل نظام على حدة، من التزامات القضية الفلسطينية. أي النظر إليها معطّلاً ومعرقلاً نهوض الشعوب، وإيجاد معادلة جديدة للتعامل مع إسرائيل، بمعنى التسليم بأننا دخلنا عهد إسرائيل في المنطقة، وكأنها لا تشكّل تهديداً لكل دولة عربية على حدة، أو على الأمن القومي العربي بمجموعه.
يبدو أن الرئيس السوري يتصرّف على أساس المعادلة التي هي طور التشكيل، لكنها تصبح حقيقةً بقبولها والاستسلام لها، فلن يُقبَل النظام الجديد دون أن يلتزم قواعد اللعبة التي أصبحت شرطاً لقبوله، ودون الأخذ بمخاطر هذه الطريق وتداعياتها على سورية وسيادتها ومستقبل مقدّراتها الاقتصادية.
لا حاجة لطمأنة إسرائيل، بل هناك حاجة للتمسّك بالحقوق الوطنية السورية
الغريب والمستهجن أن تاريخ إسرائيل منذ نشوئها والسياسات الأميركية في المنطقة كأنها حدثت في عالم بعيد أو مواز، وكأن إسرائيل لا تشكل خطراً على سورية وأن أميركا صديقة للشعب السوري. ليس المطلوب أن تعلن سورية حرباً على إسرائيل أو تهدّد بانتقام أو مواجهة، فأولويتها الحفاظ على نفسها وإعادة بناء الدولة والمجتمع السوريين، وليس مطلوباً أن تعلن جبهة مواجهة ضد أميركا، وأن لا يكون لها علاقات مع جميع الدول. ولكن لا يوجد حكمة من مهادنة إسرائيل اللفظية إلى درجة محاولة طمأنة كل وفد أميركي وغربي، وفي كل مقابلة صحافية، بأن النظام الجديد لن يكون خطراً على جيرانه، والمقصود إسرائيل، وأن لديها مع إسرائيل أعداءً مشتركين. وهنا لا داعي للتذكير بأن الفلسطينيين في نظر إسرائيل أكبر عدو لها: وأتساءل: لماذا لا يخطر ببال الشرع أن إسرائيل لن تعتبر سورية دولة صديقة، بل إن احتلالها الجولان والقنيطرة جزء من مشروعها الصهيوني الذي لا يقبل بالسيادة السورية على أراضيها.
ليست الإشكالية عدم وعي الشرع خطر إسرائيل، وإنما قد تكون في توهُّم أن الانفتاح على "لبرلة" القطاع العام السوري وفك الارتباط مع القضية الفلسطينية يشكل حماية للنظام الجديد وسورية. هذا التفكير هو التيار السائد لدى الأنظمة العربية وبعض المثقفين السوريين والعرب، وهذا توجّهٌ يزيد من عنجهية إسرائيل، والحديث عن إعطاء جملة تبرئ إسرائيل، ولو دون قصد، من كونها عدواً أو معتدياً، فلا حاجة لطمأنة إسرائيل، بل هناك حاجة للتمسّك بالحقوق الوطنية السورية، وتذكُّر أنّ سورية في موقف قوة، فالشركات العالمية هي التي يجب أن تتنافس على قبول الدولة السورية لها للاستثمار فيها وفقاً لشروط سيادية تضعها دمشق، ولا حاجة، بل من المهين أن يضطر الشرع إلى "إثبات حسن سلوك" أمام ممثل كل شركة تطمع في الثروات السورية، فإسرائيل هي الطرف المعتدي، وليس سورية.
