ماذا يعني أن يُهدم البيت الفلسطيني؟

2 weeks ago 10
ARTICLE AD BOX

في مشهد يومي، تغزو جرافات الاحتلال بكلابها وجنودها بيوت الفلسطينيين التي تصبح مهددة فجأة بعد أن كانت تُبنى بشكل طبيعي لسنوات طويلة، وأحياناً أخرى تُهدم دون سابق إنذار، ودون قدرة أصحابها على إنقاذ حتى كرسي بلاستيكي. تتحول زخارف البيت في لحظة قصيرة إلى ركام، وأقواس شبابيكه إلى حجارة لا معنى لها.

حتى الأمس، وفي فترة تجاوزت مائة يوم، استمرت مجازر البيوت وتفتيتها، بعدما نسفت قوات الاحتلال أكثر من 40 منزلاً في مخيم طولكرم، شمال الضفة الغربية، شملت حوالي مائة شقة سكنية، وأحرقت ما لا يقل عن عشرة منازل، ودمرت أكثر من 300 محل تجاري، بالإضافة إلى مئات المنازل التي تضررت جزئياً، وشقت الشوارع في وسط المخيم ودمرت البنية التحتية بشكل كامل. ترافق ذلك مع مخيمي جنين ونور شمس، ونزوح أكثر من 90% من سكان المخيمات إلى مناطق مجهولة.

في المقابل، تعرّضت العديد من المراكز الثقافية والمؤسسات المجتمعية وبعض المساجد، مثل مسجد الجابريات، ومسجد خالد بن الوليد، ومسجد أبي بكر الصديق في جنين، للاعتداء والتدمير. كما أُغلقت بعض المؤسسات أو وُجّهت إليها تهديدات بالاقتحام، ومن بينها مؤسسة "لاجئ" ومركز شباب عايدة، حيث اعتُقل مدير المركز في وقت سابق. أيضاً، صدر قرار بإغلاق مركز "إبداع" في مخيم الدهيشة بمدينة بيت لحم منذ مارس/ آذار 2025، وذلك بعد الإفراج عن مديره، الناشط في العمل الثقافي والاجتماعي.

فضلاً عن ذلك، اقتُحم "مسرح الحرية" في مخيم جنين، ودُمّرت محتوياته، وهُدم جزء منه، وتم تحويله إلى موقع عسكري تابع للاحتلال. ويُعدّ هذا المسرح آخر المراكز الثقافية المخصصة للأطفال في المخيم منذ الاجتياح الأخير، الذي تجاوز مائة يوم، ما دفع أعضاءه إلى تقديم عروضهم للأطفال النازحين في شوارع وحارات القرى التي لجأ إليها سكان المخيمات.

تفكيك المشهد الفلسطيني التقليدي وفق خيال استيطاني جديد

لطالما كانت العمارة في فلسطين أكثر من مجرد جدران وحجارة، فهي مرآة تعكس هوية الفلسطينيين وتاريخهم الجمعي، تعايش قصصهم، أفراحهم وأتراحهم، وتحمل بين جدرانها مخزناً من الذاكرة والتفاصيل، وكلما تطورت الحياة تطوّر البيت الفلسطيني بما يتناسب مع طبيعة المكان، متأثراً بالبيئة الطبيعية والاجتماعيات المحلية والعوامل السياسية، ليتحول اليوم إلى ساحة صراع رمزي ومادي بين الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وبين الامتداد الرأسمالي الذي احتل فلسطين، ولم يقتصر احتلاله على الأرض، بل تعداه إلى محاولة تفكيك وتشويه هوية الفلسطينيين المعمارية والبصرية.

عمل الاحتلال الإسرائيلي على تفكيك العمارة الفلسطينية عبر أدوات متعددة، أبرزها الهدم الممنهج للبيوت والمصادرة، وفرض أنظمة تقسيم صارمة (مناطق أ، ب، ج) تحدّ من حرية البناء، وحجب التراخيص والموارد، التي أدت لسياسات حادة في أزمة السكن، وفقدان لبعض المنشآت العامة والمؤسسات والجمعيات وتحويل بعضها لأماكن نزوح، بخاصة في القرى المجاورة.


نشأة العمارة العشوائية

منذ نكبة عام 1948، أدّى الاستعمار الاستيطاني دوراً مركزياً في تفكيك المشهد المعماري الفلسطيني التقليدي، بهدف إعادة تشكيل المكان وفق خيال استيطاني جديد. سعى الاحتلال إلى طمس معالم قرى بأكملها، وإقامة مستوطنات بطرازات غربية على أنقاضها، متجاهلاً السياقين الطبيعي والثقافي اللذين شكّلا هوية تلك القرى. تم ذلك عبر سياسات ممنهجة من مصادرة الأراضي، وهدم البيوت، وفرض أنماط بناء قسرية داخل المدن والبلدات الفلسطينية، ما أدى إلى نشوء المخيمات بوصفها أماكن مؤقتة للّاجئين، سرعان ما أصبحت دائمة. وقد تكرّر المشهد بعد نكسة 1967، مع موجات نزوح جديدة وفقدان آخر لما تبقّى من هوية معمارية للمخيمات المكتظة بصرياً ومادياً.

ومع إنشاء المخيمات بعد النكبة، برز نمط معماري طارئ لم تعرفه فلسطين من قبل. بدأت هذه المخيمات بخيام مؤقتة، ثم تطورت تدريجياً إلى مساكن مبنية من الزينكو والإسمنت العشوائي، دون تخطيط عمراني واضح. ورغم هشاشتها، شكّلت هذه الأبنية بنيةً رمزية ثقيلة، تحوّلت مع الوقت إلى شهادة عمرانية حية على استمرار النكبة وواقع اللجوء القسري. وبمرور الزمن، طوّرت المخيمات هوية معمارية خاصة بها، تمزج بين الحنين إلى القرى المهدّمة وبين قسوة العيش في واقع التهجير والفقدان.


تحوّلات المدن والقرى

شهدت المدن الفلسطينية تحوّلات جذرية في بنيتها العمرانية ومزاجها الاجتماعي، برزت بشكل خاص في مدينة رام الله التي تحوّلت، منذ اتفاقية أوسلو، إلى ما يشبه "العاصمة الإدارية" للسلطة الفلسطينية ومركزاً للقرار السياسي. رافق هذا التحول انفجار عمراني غير مسبوق، ظهرت فيه ناطحات سحاب صغيرة، ومجمعات سكنية وتجارية فاخرة، وتصميمات حديثة مستوحاة من طرز عالمية، لكنها معزولة عن السياق الفلسطيني. هذا النمط العمراني المفروض خلق فجوات بصرية ونفسية بين رام الله ومدن فلسطينية أخرى، كبيت لحم ونابلس وغزة، التي حافظت، بدرجات متفاوتة، على طابعها المعماري التقليدي رغم ما تعانيه من تهميش وإهمال نتيجة تمركز السلطة في رام الله. فهذه المدينة، التي كانت مصيفاً ريفياً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، باتت اليوم مدينة مكتظة بحجارتها البيضاء وتناقضاتها العمرانية.

في رام الله، ساهم رأس المال الخاص، والمؤسسات الأجنبية، وأجواء "بناء الدولة" في فرض نموذج عمراني استيطاني الطابع، منفصل عن الطابع القروي أو البلدة القديمة. في المقابل، حافظت مدن فلسطينية أخرى على بعض ملامح البناء التقليدي، لا سيما في مراكزها التاريخية، رغم الخروقات المتكررة للقوانين التي من المفترض أن تحمي هذا الإرث من الهدم أو التغيير.

لا يتوقف أثر العمارة عند حدود التكوينات البصرية، بل يمتد إلى تشكيل الوعي الجمعي والمزاج العام. فعندما يفقد المكان انسجامه مع ذاكرة الناس وثقافتهم، يولد شعور بالغربة والاقتلاع الداخلي. وفي القرى التي اجتاحها البناء العشوائي، والمدن التي فُرضت عليها نماذج معمارية دخيلة، نشأ انفصال وجداني عن البيئة. المخيمات أيضاً لا تزال عمارتها تذكّر بالنكبة، وتعكس شعوراً دائماً بالاختناق وغياب الأفق، نتيجة الاكتظاظ والتهميش العمراني المقصود.


* فنان تشكيلي من فلسطين

Read Entire Article