ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">ولي العهد السعودي يتوسط الرئيسين الأميركي والسوري في لقاء ثلاثي بالرياض (رويترز)</p>
بعد حسم مسألة الاعتراف بالسلطة الجديدة في دمشق لمصلحة "هيئة تحرير الشام" سابقاً، وتسلمها مفاصل البلاد العسكرية والأمنية والدبلوماسية، يبدو أنه بقي على المجتمع الدولي أن يختار بين اثنين، إما دعم هذه السلطة من دون شروط بما فيه ميدانياً، كي تبسط سلطتها بالقوة على كامل أراضي سوريا، أو أن يدخل المجتمع الدولي في صلب عملية مصالحة سورية - سورية تصل إلى اعترافات متبادلة بين النظام ومعارضيه في مناطق الأقليات، والدخول فوراً في مفاوضات تؤدي إلى تسوية سياسية شاملة للأزمة في سوريا.
والخياران الآن غير متساويين، إذ إن الاعتراف العربي والدولي كان ولا يزال حاسماً لسلطة أحمد الشرع، وبالتالي فالدعم لمعارضي هذه السلطة غير موجود ولا سيما إذا كانت المعارضة هي من بقايا النظام السابق، وقد رأينا أن الغرب وقف صفاً واحداً مع الدول الخليجية في الاستثمار تحت إشراف سلطة دمشق وبشراكة معها، ومن المنطقي جيوسياسياً أن تضغط السلطة الجديدة على مانحيها وشركائها الجدد كي يوفروا لها الحرية الكاملة للتصرف داخلياً مع المعارضة، وبخاصة مع الأقليات. وعلى رغم إصدار تصريحات محدودة عن أحداث في الساحل واحترام الخصوصية الدرزية وتقوية الشراكة مع الأكراد، فإن الغرب اتفق على عدم الضغط على دمشق كي لا تتعثر مسيرتها السياسية والدستورية، وكي لا تتأخر العقود الاستثمارية الهائلة الآتية إليها من الخليج ومصادر أخرى.
إلا أن عدم معالجة الجروح الداخلية السياسية، ولا سيما إذا كانت قومية وإثنية وطائفية، وبحسب الدروس التاريخية، ستفتح أزمات خطرة بالنسبة إلى الدولة السورية ككل والإقليم بعامة، إذ إن فرض السلطة بصورة أمنية وعسكرية من دون توافق سياسي لن يقوى على التغييرات الممكنة التي قد تطيح بالاستقرار عندما تتغير الظروف، فالمصالح المالية والاقتصادية التي تشكل القاعدة الدولية لدعم النظام الجديد واسعة وغير قابلة للتوقف، لأن المستفيدين المحليين والإقليميين والدوليين يمثلون المحور الفولاذي الشامل، ويشكلون المظلة فوق السلطة الجديدة.
ولكن القوة الحامية للحكم الذي يصف نفسه بـ "الأموي" تاريخياً، وإن حمت السلطة من أخصامها الخارجيين، سواء أكانوا القوى التابعة للنظام الإيراني أم حتى إسرائيل، فليس بإمكانهم أن يحموها من صراع داخلي، أي من مواجهات سنيّة - سنيّة إن حصلت بطريقة أو بأخرى، أو إذا حصلت مواجهة إقليمية نتيجة اشتباك إيراني - إسرائيلي شامل، لذا فمن الأفضل إقليمياً ودولياً، وحتى حيال المصالح الاقتصادية، أن يجري حل مشكلة الأقليات بصورة جذرية وباكراً كي لا تُضرم نيران من خلالها تصيب المصالح المتشابكة والمتسارعة.
وبكلام أبسط فإن السلطة في دمشق وداعميها أمامهما خياران، حرب ميدانية مع الأقليات قد تتحول إلى مواجهة مع مقاومات مختلفة، أو تسويات تاريخية، ففي العراق جرت تسوية مع الأكراد عبر "إقليم اتحادي" دخل في الدستور، وكان للولايات المتحدة دوراً أساس في إقناع الأطراف بقبول التعددية أياً كان شكلها في العراق، وفي سوريا تحد مماثل، فهل تقبل السلطة المركزية بشركاء اتحاديين؟ وهل تقبل الأقليات بالبقاء في دولة وحدوية؟ ومن سيساعد الطرفين في التوجه إلى المصالحة والشراكة؟
من المنتظر أن السلطة الحالية التي تسيطر على الجمهورية العربية السورية والمعترف بها من معظم الدول، والمنبثقة عن "هيئة تحرير الشام" والفصائل القتالية التي كانت توصف بـ "الجهادية"، لن تقبل بشراكة مع آخرين لتقاسم سوريا، أو أي شكل من أشكال الفيدرالية، لكن طرفين دوليين بإمكانهما أن يبادرا إلى إقامة إطار حواري يقنع الأطراف السورية بالجلوس إلى طاولة التفاوض لحل الأزمة الحالية ومنع الأزمات المستقبلية، وهما السعودية والولايات المتحدة، ومن مصلحتهما أن يعملا على حل المعضلة لمصلحة الاستقرار الإقليمي، فواشنطن والرياض هما من وفرا الإطار السياسي والدبلوماسي الأساس لتشريع الشرع، وهما من في قدرتهم أن يقنعا السلطة بأن تجلس في السعودية وبحضور إدارة الرئيس دونالد ترمب كعرابين لمؤتمر المكونات الأساس في سوريا، وحجة العرابين حيال القيادة الشامية لا بد من أن تكون مصلحة الذين أعطوا الشرعية لـ "الهيئة" أساساً، وهو خيار قائم على حسابات إستراتيجية للكبار، فالسعودية يهمها الاستقرار الإستراتيجي، وإدارة ترمب تتأثر بالصفقات الاقتصادية الكبرى، وحل مسألة المكونات في سوريا ممر لا مفر منه لإرضاء حاجات المحور السعودي – الأميركي، إذ تلعب الرياض دوراً أساساً في حماية المستقبل السياسي للحكم الجديد، وتلعب الإدارة دوراً حاسماً في حماية السلطة الجديدة من جهة، ومصالح المستفيدين من الأسواق الآتية من جهة أخرى.
وبالتلخيص الإستراتيجي فإن الرياض وواشنطن قادرتان على أن تختارا الابتعاد من الاهتمام بالمسألة الاثنية والطائفية، وتتركا للسلطة حلها على طريقتها من دون رقيب، مع ما ينجم عن ذلك من أخطار حالية ومستقبلية على سوريا والمشرق، أو إطلاق مبادرة مشتركة تقود أجندتها السعودية، فتدعو إلى مشروع حوار وحل للأزمة تحت مظلتها، كما فعلت مع أزمات أخرى إقليمية، فإذا اقتنعت السعودية والولايات المتحدة الأميركية بصواب هذا التحليل، واستشرفتا المستقبل بكل احتمالاته، سواء في المنطقة أو دولياً، فستخرج سيناريوهات كثيرة تساعد في تأمين المستقبل لبلاد الشام، وقد تكون بعض هذه السيناريوهات أفضل من الأهداف المعروضة حالياً، ولكن الأهم هو معرفة ما تريده المكونات السورية نفسها من الأكبر إلى الأصغر، وسنكتب عنها قريباً.