مجهول طرابلس المؤجل

1 day ago 1
ARTICLE AD BOX

صباح الأحد الماضي، في حي الفرناج، أكثر أحياء طرابلس الذي تقع فيه نقاط التماس بين المجموعات المسلحة، لم يجد رجال جهاز الطوارئ صعوبة في إجلاء العائلات التي تواصلت معه لمساعدتها على الفرار. فقد كانت تلك العائلات مستعدة بشكل مسبق، مجهزة حقائب مملوءة بضروريات الهروب، في مؤشر واضح يعكس عدم ثقتها في إعلان وقف إطلاق النار، منتصف شهر مايو/أيار الماضي، بين مجموعات تابعة لحكومة الوحدة الوطنية، وقوات تابعة للمجلس الرئاسي من جانب آخر.

خروج تلك العائلات بانسيابية سريعة لم يكن ردة فعل على الوضع المتردي فقط، بل شهادة معلنة على حياة أفرادها اليومية التي يعيشونها وسط تهديدات دائمة وضغوط لا تنقطع. فاللافت أن خروجهم من منازلهم جاء حتى بعد إعلان الحكومة صباح اليوم نفسه، حرصها على الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار. كلام قوي كرره رئيس الحكومة، عبد الحميد الدبيبة، ثلاث مرات في أقل من شهر حول إعلانه عن مشروع "فرض سلطان الدولة" بإقصاء كل من لا يرغب في الانخراط في الأجهزة الشرطية والعسكرية النظامية، ويظهر أنه يحمل في طياته تحقيقاً لأمل طال انتظاره.

لكن أسئلة في الأثناء تفرض نفسها: كيف يتوافق عزمه تنفيذ هذا المشروع مع إعلان وقف إطلاق النار؟ بل كيف يمكن فهم إعلان حكومته التزامها بالاتفاق، صباح الأحد الماضي، وفي ثاني أيام الإعلان تتناقل وسائل إعلام مقربة من الحكومة صور لقاء الدبيبة مع قيادات عسكرية في مصراتة، التي يتحدّر منها، والاتفاق على تشكيل قوة مشتركة لدعم "مشروع إنهاء سيطرة المليشيات" في طرابلس؟ فالتناقض لا يخطئه مُلاحظ.

يبدو المشروع الحكومي في غوره البعيد سعياً لاحتواء القوى المسلحة المتبقية خارج دائرة السيطرة المباشرة للحكومة. وأكثر الأسئلة التي يطرحها واقع هذا المشروع، هو كيف يمكن تصنيف المجموعات المسلحة بين الشرعية وبين المليشياوية. فجهازا الردع ودعم الاستقرار يتبعان للمجلس الرئاسي الذي يحمل صفة القائد الأعلى للجيش. وإذا كان الأمر متعلقاً بسلوك الانفلات والتجاوزات، فجهاز الأمن العام التابع لوزارة الداخلية انتشر في حي أبوسليم، بعد سقوط جهاز دعم الاستقرار، وعاث في الحي نهباً وسرقة دون أن تحرك الحكومة ساكناً. فمسمى قوة الأمن العام بتبعيتها لوزارة الداخلية لم يلغ طابع المليشيا في سلوكها.

الأمر ليس دفاعاً عن المجموعات المسلحة التي تستهدفها الحكومة، فقد ثبت بالفعل أنها اقترفت أعمالاً إجرامية، لكن الأمر يتعلق بموقف الحكومة المتبدل منها بشكل مفاجئ. فحتى وقت قريب كانت الحكومة تدعمها عبر موازنات وزارتي الداخلية والدفاع، وتغض الطرف عن انتهاكاتها جميعها، بل ودافع الدبيبة نفسه عنها في أحد التصريحات، قائلا إن "أفراد المليشيات أبناؤنا". وفي أحد الاجتماعات الوزارية لحكومته قال علناً إن وزير الداخلية عماد الطرابلسي "مليشياوي". فلماذا تعلن الحكومة عن مشروعها في إنهاء سيطرة المليشيات الآن بالذات؟

الإجابة تبدو سياسية بحتة، فيبدو أن هدف الحكومة الأساسي هو فرض نفسها قوة مهيمنة لا غنى عنها في العاصمة طرابلس، تحسباً لتحولات سياسية كبيرة مقبلة لا محالة من خلال المبادرة الأممية التي بدأت تتحرك فيها البعثة الأممية بكثافة هذه الأيام. فمن غير المستبعد أن يكون المشروع لترسيخ الحكومة نفسها أمراً واقعاً في العاصمة، عسكرياً وسياسياً، لتضمن موقعها في صدارة المعادلة المقبلة، وإلا كم مرة أعلنت في السنوات الماضية عن خططها لإنهاء مظاهر التسلح في العاصمة دون أن تحقق فيها خطوة واضحة؟

وسط كل هذا، يعيش أهالي طرابلس في ضغط وتوتر لا يطاقان. وكل هدنة تعلَن تزيد من قناعة السكان بأنها مجرد تمهيد لانفجار محتمل بين الأجنحة المتصارعة تحت سقف الدولة الهشة، فخوف المواطن لم يعد من المجهول بل من المجهول المؤجل.

Read Entire Article