محمد بورويسا.. كرونولوجيا بصرية للتهميش

5 days ago 4
ARTICLE AD BOX

لا يعرض الفنان الفرنسي من أصل جزائري محمد بورويسا أعماله بوصفها لقطات ساكنة من الحياة، بل وثائقَ حيّة، مسيّسة، مشحونة بالأسئلة، ومشحونة أيضاً بالإصرار على خلق سرديات مضادة من داخل الهامش. في معرضه "Communautés. Projects 2005–2025" المقام حالياً في مؤسسة ماست في مدينة بولونيا الإيطالية، والذي يستمر حتى 28 سبتمبر/ أيلول المقبل، يستعرض الفنان عقدين من العمل الفني، مقدّماً خلالها رؤيته الجمالية والاجتماعية.
 
وُلد بورويسا في الجزائر عام 1978، وهاجر إلى باريس برفقة والدته وهو في الخامسة من عمره. هناك نشأ في إحدى الضواحي الباريسية (كوربفوا)، حيث خبر التهميش، والتمييز، وشكّل لاحقاً وعيه الفني والسياسي. كانت البداية مع الرسم، ثم انتقل إلى موسيقى الراب، وسيلة للتعبير عن الهوية والاحتجاج، قبل أن يستقر به المطاف عند الصورة التي سرعان ما تحوّلت إلى ساحة اشتباك مع الخطاب العام الفرنسي تجاه المهاجرين.

لا يتوانى بورويسا عن التأكيد أن هويته ليست فرنسية تماماً، ولا جزائرية خالصة، بل تنتمي إلى الضواحي، تلك المساحات الرمادية الواقعة بين المركز والهامش، بين الاندماج القسري والعزلة المفروضة. هذه الثنائية، الاندماج/الإقصاء، تشكّل جوهر مشروعه الفني الممتد، حيث تصبح الصورة وسيلة للكشف والتعرية، كما تصبح أيضاً وسيلة للبناء والترميم.

ثنائية الاندماج والإقصاء في أعماله وسيلة للتعبير عن الهوية  

في سلسلة Périphérique التي انطلقت عام 2005، وهي العام الذي شهد اندلاع اضطرابات الضواحي في فرنسا، يصوّر بورويسا شبّان الضواحي في مشاهد مركّبة، أقرب إلى "اللوحات الحيّة"، حيث يستلهم تكويناته من أعمال فنية كلاسيكية لديلاكروا وكوربيه، ويدمجها مع تفاصيل الحياة اليومية. هذه الأعمال لا تحاول أن تكون واقعية، بل تتعمد التمثيل، وتستخدم التجميل فعل مقاومة، وتؤكد أن للشباب المهمش صوتاً وجسداً وحضوراً جمالياً.

في عمله Shoplifters (لصوص المتاجر)، يلتقط بورويسا 19 صورة كانت معلّقة في متجر بروكليني، التُقطت للمشتبه بهم وهم يحملون المسروقات البسيطة التي حاولوا سرقتها. الصور التي التقطها صاحب المتجر بكاميرا بولارويد بدائية، تحمل دلالات مريرة عن الفقر، والذل، والرقابة الاجتماعية، لكنها – في سياق عرضها الفني – تنقلب إلى إدانة أخلاقية للنظام، لا للأشخاص.

أما أحدث أعماله، Hands (أيادٍ)، فيقوم على إعادة تدوير الصور السابقة وطباعتها على ألواح شفافة ضمن قفص معدني، مستلهماً من مقولات أنطونان أرتو حول الجسد والحساسية. اليد، هنا، تتحوّل إلى رمز للصراع: يد تمتد ولا تُسمع، تُشير ولا تُرى، تُعبّر لكنها مُقيدة.

لا يدّعي بورويسا الحياد، بل يرفضه. يعتبر الصورة موقفاً سياسياً بالدرجة الأولى، لكنه لا يقع في فخ التبشير أو الشعاراتية. على العكس، يستند إلى جماليات دقيقة، وتكوينات محكمة، وإشارات ثقافية متعددة، ليصوغ عملاً فنياً هجيناً، يتقاطع فيه الوثائقي مع السينمائي، والمسرحي مع الفوتوغرافي، والجسد مع الرمز.

في معرضه الحالي، لا يقدّم محمد بورويسا فقط تأريخاً بصرياً للهامش، بل يقدم دعوة إلى إعادة التفكير في مفهوم المجتمع، والهوية، والمركزية. يذكّرنا أن الفن، في عصر طغيان الصورة، ما زال قادراً على أن يكون مساحة مقاومة، ومرآة عدالة.

Read Entire Article