ARTICLE AD BOX
مدخل
يملك بنيامين نتنياهو في جعبته رزمة من مشاريع توسعيةٍ إسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط، ويعمل منذ سنواتٍ طويلةٍ على تحقيقها كلّها، لكنه ليس أول قائدٍ إسرائيلٍ يطرح هذا، فقد سبقه شمعون بيريز، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، الذي شغل أيضًا منصب رئيس دولة إسرائيل، إضافةً إلى كونه رجل سياسةٍ ناشطًا في حزب العمل مدّةً طويلةً، وأحد مصمّمي شكل ومضمون دولة إسرائيل، إذ نشر كتابًا قبل اتّفاقيات أوسلو بعنوان: "الشرق الأوسط الجديد"، عرض فيه قوّة إسرائيل الحاضرة والمستقبلية، ليس في المجال العسكري فقط، بل في مجالات التكنولوجية أيضًا، ولخّص حلمه بعبارة "العقل الإسرائيلي والمال العربي"، داعيًا العرب إلى اختبار خبرة إسرائيل في هذا النطاق، بعد أن فشلت خبرة قيادة جمال عبد الناصر العالم العربي، حينها أبدت الإدارة الأميركية، عبر وزيرة خارجيتها كوندوليزا رايس، طموحًا مشابهًا لولادة شرق أوسطٍ جديدٍ كما أشارت إلى ذلك.
من هنا؛ نجد طرح تمهيدٍ واضحٍ لفكر بنيامين نتنياهو في العقود الثلاثة الأخيرة على الأقلّ، كما تتماهى أحلام نتنياهو مع طروحاتٍ دينيةٍ بفعل تكوين تشكيلة حكومته الحالية، من أحزابٍ دينيةٍ حريديةٍ ومتطرفةٍ جدًّا، تنادي بطرد العرب من كلّ فلسطين، وتهويد فلسطين كلّها، بل السعي إلى تمدُّد إسرائيل باتجاه مناطق مجاورة في لبنان وسورية وغيرهما.
مثّل "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 دافعًا للحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو لانطلاق التطبيق الفعلي لمشاريعها التوسعية، هذا ما يُجمع عليه عددٌ كبيرٌ من الباحثين والمختصين، بمعنى آخر؛ استغل الهجوم ذريعةً لإخراج مشروعه التوسّعي إلى النور، ما يعني أنّ ردّ الفعل الإسرائيلي على الهجوم ليس موجهًا نحو مسببه فقط (نعني حركة حماس)، إنّما للسيطرة على قطاع غزّة وضمّه إلى إسرائيل، بعد تطهيره عرقيًّا من سكانه، بواسطة التهجير القسري، أو النقل المبرمج أو الطوعي (تسمية لإعماء العيون فقط)، ومن ثمّ السعي تدريجيًّا وبسرعة إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط.
الاعتقاد السائد في إسرائيل، أنّ إضعاف مواقع محور المقاومة، الذي أطلق عليه نتنياهو اسم "محور الشر أو محور النقمة"، يسهل التعامل مع الملف النووي الإيراني
أسس المشاريع التوسعية الإسرائيلية
الحرب الإسرائيلية على غزّة ليست محصورة فيها فقط، بل هي حربٌ متعدّدة الجبهات، فيها حربٌ على المخيّمات في الضفّة الغربية، وعلى لبنان وسورية واليمن والعراق، بالإضافة إلى الحرب ضدّ إيران. لقد عرض نتنياهو في مناسبات عدّة، من أبرزها منصة الهيئة العامة للأمم المتّحدة في نيويورك، خرائط الشرق الأوسط، بالإضافة إلى خريطة إسرائيل، من دون أيّ إشارةٍ إلى فلسطين، سواء الضفّة الغربية أو قطاع غزّة، أو كليهما معًا، وهو مؤشرٌ اعتبره محلّـلون إعلانًا غير رسميٍ عن ضم هاتين المنطقتين، اللتين ستشكلان مستقبلاً الدولة الفلسطينية كما هو متّفق عليه في اتّفاقيات أوسلو، وسواها من تفاهماتٍ، بإشرافٍ دوليٍ.
كما علينا الانتباه جيّدًا إلى أنّه بالرّغم من اعتبار نتنياهو السابع من أكتوبر حربًا وجوديةً على إسرائيل، إلّا أنّه لم يخفِ مطلقًا نيته اختراق العالم العربي، بدءًا من التطبيع مع السعودية، والاستفادة من اتّفاقيات أبراهام، وربط إسرائيل بالخليج والهند، كما تعزّز توجه الاتّفاقيات المبطن بتصريحات بتسلئيل سموتريتش المتكررة عن أنّ إقامة إسرائيل الكبرى مسألة وقتٍ، وستقوم إسرائيل بتنفيذ مشاريع التوسُّع على حساب الأردن ومصر والسعودية والعراق، بل حتّى تركيا، فهو يعتبر هذه الأراضي حيّزًا توراتيًا تلموديًا للتوسُّع، كما أنّ من حقّ شعب إسرائيل الاستحواذ عليها.
تندمج رؤى نتنياهو السياسية والاستراتيجية مع رؤى سموتريتش وتياراتٍ يمينية أخرى لتطبيق روح وفكر التوراة على الأرض، ليس في فلسطين فقط (أرض إسرائيل حسب تسميات التوراة)، إنّما في كلّ موقعٍ ورد ذكره في نصوص التوراة.
ضمّ الضفّة الغربية فعلياً
أصبح واضحًا منذ مدّةٍ طويلةٍ، على مدى عمر حكومات نتنياهو، أنّه ألغى حلّ الدولتين، ووسّع البؤر الاستيطانية، وصولًا إلى مليون مستوطنٍ في السنوات القليلة القادمة، مترافقًا مع عمليات تدمير وتجريف المخيّمات الفلسطينية، بدءًا من شمال الضفّة الغربية، أيّ جنين ونابلس وطولكرم، وصولًا إلى مخيّمات رام الله وبيت لحم والخليل جنوبًا. هذا يعني الضم الشامل للضفّة الغربية، وتقطيع أوصالها للحيلولة دون بناء شبكة مقاومةٍ متصلةٍ جغرافيًا، ووأد مشروع إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ ذات قدرةٍ على التعايش مع الظروف التي فرضتها إسرائيل، ويعتبر محللون وعسكريون في إسرائيل أنّ مناطق عدّة في الضفّة الغربية تشكل برميل بارودٍ مؤقتٍ سينفجر في وجه إسرائيل، لهذا تستبق ذلك بعمليةٍ واسعةٍ لتصفية حركة المقاومة فيها.
تواصل إسرائيل حربها على القطاع على الرغم من انتهاء الأهداف من دون تحقيقها بالمرّة، سوى الدمار الهائل، وتنفيذ إبادةٍ جماعيةٍ، وسط تجويعٍ وقمعٍ وقتلٍ غير مسبوقٍ في التاريخ الإنساني.
ضرب حزب الله وتفكيك لبنان مجدداً
الجبهة اللبنانية؛ يسعى نتنياهو فيها إلى تدمير القرى الحدودية، وعدم السماح لسكانها بالعودة إلّا بشروطٍ أولها إبعاد حزب الله نهائيًا، بعد نجاحه في تصفية قياداته من الصف الأول، ابتداء من حسن نصر الله وخليفته وغيرهما، فضلاً عن نجاحه في تفجير البيجرات، التي هزّت حزب الله، وأطرافٌ أخرى في المنطقة، أبرزها إيران. قسّم نتنياهو مناطق لبنان الجنوبية إلى مربعاتٍ لعزلها عن حاضنتها الشعبية، وخلق واقعٍ مُركّبٍ ومُعقّدٍ من فتنة طائفيةٍ، ونزع الثقة بقوّة المقاومة وحضورها في لبنان، ما سيؤدي؛ بالمفهوم السياسي الإسرائيلي، إلى تفككٍ طائفيٍ أوسع من سابقه، وبالتالي استفادت إسرائيل من وضع لبنان الهش، وحققت ضرباتٍ قاسيةً على حزب الله، فثبتّت حضورها العسكري في الجنوب اللبناني، ما يحول دون خروجها مستقبلاً بسهولةٍ من هذه المنطقة، عِلمًا أنّ إسرائيل لم تُحقّق هزيمة حزب الله نهائيًّا، كما أنّها لم تُحقّق هزيمة حماس نهائيًّا، لهذا نرى أنّ ما تريده إسرائيل من توسيع مناطق نفوذها في لبنان يتمثّل في منع عودة حزب الله إليها، وأيضًا نزع المنطقة من أيّ سلاحٍ يُهدّد واقع ومستقبل المستوطنات الإسرائيلية في شمالي فلسطين.
مثّل "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 دافعًا للحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو لانطلاق التطبيق الفعلي لمشاريعها التوسعية
من سقوط نظام الأسد إلى ممر داوود
أمّا التوسع في سورية؛ فبعد سقوط نظام بشار الأسد، وهروبه في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، استفاد الجيش الإسرائيلي من الفراغ السياسي والأمني، الناتج عن السقوط، والظهور المفاجئ لأحد قيادات الثورة في سورية، ألا وهو أحمد الشرع، الملقب بالجولاني، وبالتالي حقّقت توسعًا داخل الأراضي السورية.
تزامنت الفوضى السياسية مع فوضى عسكرية، بانسحاب فلول النظام السابق من المناطق المحاذية للحدود مع الجولان السوري المحتل، المحتل من قبل إسرائيل (احتلته إسرائيل في حرب حزيران 1967)، ما دفع إسرائيل إلى تسديد ضرباتٍ جويةٍ على عددٍ كبيرٍ من القواعد والمستودعات العسكرية السورية متسببةً بشللٍ شبه كلّيٍ. بالتوازي مع ذلك؛ احتل الجيش الإسرائيلي مساحاتٍ شاسعةً من المناطق السورية، ووضعها تحت سيطرته المباشرة، كما صرّح وزير الأمن الإسرائيلي أنّ إسرائيل لن تخرج منها بسهولةٍ، بل تعتبرها مكسبًا استراتيجيًا مستقبليًا، وذريعة إسرائيل أنّ هذا التوسع بمثابة منطقةٍ عازلةٍ لحماية أراضيها في الجولان، وتصفية قواعد إيرانية كانت منتشرةً هناك لدعم حزب الله، والحكم السوري البائد.
طرحت جهاتٌ سياسيةٌ مواليةٌ لنتنياهو فكرة إقامة دولةٍ درزيةٍ منفصلةٍ في جبل الدروز/ السويداء، جنوبي سورية، تحميها إسرائيل، كون إسرائيل متحالفةٌ مع الدروز مواطنيها بـ "تحالف الدم" (كما تسميه إسرائيل)، من خلال خدمتهم في الجيش الإسرائيلي. أثارت الفكرة الشارع الدرزي في سورية ولبنان، وحتّى في إسرائيل، المعارض لسلخ الدروز عن نسيجهم الوطني السوري والقومي العربي.
لا بدّ هنا من الربط بين مشروع ممرّ داود، وبين التوسع في جنوبي سورية بعد سقوط نظام الأسد، فمن أبرز أهداف هذا المشروع إعادة تشكيل سورية بما يخدم مصالح إسرائيل، عبر تفتيتها وإضعاف السلطة المركزية حديثة العهد فيها.
ممر داوود عامل مساعد للتوسع
ممرّ داوود؛ مشروعٌ توسعيٌ يمتد على طول الشريط الجغرافي الممتد من هضبة الجولان المحتلة مرورًا بالمناطق السورية الجنوبية، على الحدود السورية الأردنية، التي تشمل مدينتي القنيطرة ودرعا، ثمّ يتّسع شرقًا باتجاه مدينة السويداء في جبل حوران، ممتدًّا حتى الحدود مع الأردن – العراق وصولاً إلى مناطق شمالي شرقي سورية، على الحدود السورية العراقية، في المنطقة التي تٌعرف باسم "الجزيرة الفراتية".
الهدف من التوسّع، رغم عدم اكتمال صورته وتشكيلته العسكرية، تحقيق تصورات نتنياهو وحكومته اليمينية، أيّ تحقيق الهدف الأسمى "إسرائيل الكبرى والواسعة"، أو إسرائيل التوراتية، لكن فعليًّا سيساهم الممر في إقامة دولةٍ كرديةٍ مؤسسةٍ على قواعد إثنية في شرقي سورية، ودولةٍ درزيةٍ مؤسسةٍ على قواعد طائفية في جنوبي سورية. بالتالي تضمن إسرائيل في توسعها غير المباشر هذا وصول كمياتٍ من النفط من الدولة الكردية، وفتح الطريق التجاري إلى دول الخليج وأذربيجان وتركيا، التي لها علاقاتٍ تجارية سابقة مع إسرائيل. كما أنّ لهذا الجانب الاقتصادي أهمّية، فإنّ تفتيت سورية إلى كياناتٍ موالية لإسرائيل هو ما سيُحققه مشروع التوسع هذا. الممر هو بديلٌ، قد لا يكون مؤقتًا عن استخدام مضيق باب المندب (اليمن)، حيث الحوثيين الذين يشكلون تهديدًا لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023، عِلمًا أنّ الطيران الإسرائيلي قد سدّد ضرباتٍ قاسيةً لأهدافٍ يمنيةٍ في مطلع شهر مايو/أيّار، بالتعاون مع الجيش الأميركي، إلّا أنّ الطرف الأميركي حقّق نجاحًا في التوصُّل إلى تفاهماتٍ مع الحوثيين لمنع ضربهم أهدافًا أميركيةً، هنا نلحظ كيف ترك دونالد ترامب نتنياهو وعزله وحيدًا في مشروعه في الشرق الأوسط.
الحرب الإسرائيلية على غزّة ليست محصورة فيها فقط، بل هي حربٌ متعدّدة الجبهات، فيها حربٌ على المخيّمات في الضفّة الغربية، وعلى لبنان وسورية واليمن والعراق
الملف الايراني
الاعتقاد السائد في إسرائيل، أنّ إضعاف مواقع محور المقاومة، الذي أطلق عليه نتنياهو اسم "محور الشر أو محور النقمة"، يسهل التعامل مع الملف النووي الإيراني خصوصًا، والملف الإيراني عمومًا، وفي مقدمته إسقاط حكم الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومنع التمدُّد الإيراني في المنطقة، الذي تعتبره إسرائيل الخطر الأكبر على وجودها ومستقبلها. في هذه الجزئية حصرًا يسعى نتنياهو إلى جرّ الولايات المتّحدة لتكون شريكًا، ليس في الأفكار فقط، بل في تنفيذ ضرباتٍ ضدّ المواقع الكبرى والرئيسة، التي تنتج المشروع النووي الإيراني.
كانت الإدارة الأميركية السابقة، برئاسة جو بايدن، ومن ثمّ الحالية برئاسة ترامب، حذرةً جدًّا في تعاملها مع الملف الإيراني، ولم تقبل أبدًا الانجرار وراء أهداف إسرائيل وشن حربٍ على إيران، لأنّها مدركةً أنها ستخسر الكثير من نفوذها ومصالحها في منطقة الشرق الأوسط، وستتورط في حربٍ تعرف بدايتها لكنها تجهل نهايتها. بل أكثر من ذلك، أعلن ترامب في نهاية إبريل/نيسان 2025 عن تحقيق تقدّمٍ كبيرٍ من التفاهمات، وصولًا إلى اتّفاقٍ مع حكومة طهران فيما يتعلق بمشروعها النووي، من دون إبلاغ إسرائيل بذلك، بل ذهب إلى أكثر من ذلك بقوله تستطيع إسرائيل الرد على إيران بمفردها.
فاجأ الإعلان نتنياهو وتركه وحيدًا في الساحة، ما يعني أن مشاريعه التوسعية لم تعد تملك القدرة على الاستمرار كما هي، من خلال نهج تسديد ضرباتٍ عسكريةٍ، ومن ثمّ إخضاع الطرف المنهزم إلى أجندته. لأن الولايات المتّحدة لها أجنداتها في المنطقة، بتشكيل تحالفاتٍ فيما بينها لحماية مصالحها قبل أيّ مصلحةٍ تتعلق بإسرائيل، وستكشف الأشهر القليلة القادمة اتساع الفجوة بين رؤى الدولتين: إسرائيل والولايات المتّحدة.
خاتمة
يبدو بوضوحٍ أنّ أحلام نتنياهو التوسعية أكبر من قدراته على تحقيقها كلّها دفعةً واحدةً، كما تبادر الولايات المتحدة إلى تحقيق مصالحها من خلال الدفع إلى إبرام صفقاتٍ مع الدول العربية، ومع أطرافٍ غير مؤطرةٍ في نظامٍ رسميٍ. يبقى السؤال المركزي هنا: هل للدول العربية ردٌ أو موقفٌ من هذه المشاريع التوسعية، التي تأتي على حساب مصالحها الأمنية والاستراتيجية؟
