ARTICLE AD BOX
عندما بلغت السابعة من عمري، بدأت ألتقط ملامح هذا العالم الكبير، وشرعت أميّز بين الوجوه، الأصوات، والأنماط التي تسكنها الأرواح. كان والدي رجلًا واسع العلاقات، يتنقّل بين طبقات المجتمع كأنه يجوب خرائط داخلية للبشر: علماء، مفكرون، رجال أعمال، فلاحون، عمّال، فقراء وأثرياء، من شتّى المدن والقوميات. وكنت أنا، الطفل المراقب بصمت، أندهش أمام تنوّع العقول، وتناقض النفسيات، واختلاف طريقة كل إنسان في النظر إلى الحياة.
ومع مرور السنوات وتجوالي في بلدان وقارات وثقافات متعددة، تبلورت لدي إجابة من زاويتين أساسيتين: العقل والروح. فالعقل هو البوصلة التي ترسم خريطة الواقع، والروح هي المحرك الذي يحدد اتجاه السير. ومن هذا التقاطع، وتلك الملاحظات المتراكمة منذ الطفولة، استخلصت خمسة أنماط شائعة للعقلية تحدد نظرة الإنسان لنفسه وللعالم، وتكشف عن معدن أصحابها:
1. عقلية ريادي الأعمال هو ليس مجرد رجل أعمال، بل روح تسعى لتضيف معنى للحياة. لا يرى المال غاية، بل وسيلة لزرع فكرة، أو إنجاح مشروع، أو تغيير مجتمع. يؤمن أن الإنسان قيمة، وأن كل علاقة شراكة روحية قبل أن تكون مصلحة مادية. هذا العقل خلاق، مبتكر، يعيش من أجل أن يترك أثرًا، لا مجرد رقم في حساب.
2. عقلية السمسار (المنشار - المستغل) أخطر العقليات، لأنه يتغذى على كل شيء. رايح جاي… يأخذ. مقياسه الوحيد في الحياة: كم استفدت؟ كم قبضت؟ كم أخذت عمولة؟ كل علاقة عنده مشروع للاستغلال، وكل شخص فرصة للربح. يعيش بنهج "لا أترك شيئًا يفلت مني"، حتى لو اضطر أن يأخذ من فمك لقمة خبزك. كثير منهم يرتدون زيّ الموظفين، لكن بداخلهم تاجر عمولات لا يشبع.
3. عقلية رجل الأعمال الكلاسيكي (صانع المال) يقيس الحياة بالأرقام، ويزن الناس بالموازنات. المال مرآته، والأرباح هي معيار نجاحه الوحيد. يرى الآخرين أدوات لتنمية رأس المال: موظف، زبون، شريك… لكنه نادرًا ما يرى إنسانًا. الحياة عنده دفتر حسابات مستمر، والعاطفة فيها بند غير مدرج، الحياة صفقة مستمرة، والإنسانية أمر ثانوي.
4. عقلية الطبيب (النخبوي) لا يشترط أن يكون طبيبًا فعليًا، بل يحمل عقلية النخبة المتفوقة التي تؤمن أن العالم لا يفهم، وأنه وحده من يمتلك الحقيقة والعلم والجدارة بالقيادة. يرى نفسه القائد الطبيعي، والبقية توابع. يميل للتعالي والانغلاق، ويجد صعوبة في التواصل البشري الطبيعي. يعتقد أن المكان الطبيعي له هو الأعلى، حتى لو كان في غرفة صغيرة.
5. عقلية الموظف (الأمني/العسكري) قاسية في التسمية، لكنها تصف نوعًا من البشر يعيش في قوقعة الجهل، يغلفه طبع عشائري، لا يقبل النقاش، فوضوي في سلوكه، يرفض التغيير، ويرى العالم من فتحة ضيقة مليئة بالحكم الموروثة والخرافات. وجوده في المجتمع ضجيج بلا أثر.
تأمل في معنى الرزق: امتحان كل معدن رغم تباين هذه العقليات في أهدافها وطرقها، إلا أنها غالبًا ما تلتقي عند مفترق واحد ضيّق: مفهوم الرزق. فغالبًا ما يحصرون الرزق في المال، الملك، أو السلطة. وهنا يكمن التناقض أو القصور: فالمال قد يكون فتنة، لا نعمة. قوة العقل قد تكون استدراجًا، لا تفضيلًا. العلاقات، الذكاء، النفوذ… كلها أمانات لا امتيازات. إن اختبار كل عقلية ومعدن يكمن في كيفية تعامله مع ما أُوتي.
فالرزق الحقيقي، الذي يتجاوز حدود هذه العقليات ويمتحن أصالتها، ليس ما تملكه، بل كيف تتعامل مع ما أُعطيت. الرزق هو: أن تُوفق لما يُرضي الله، أن تُعطى القدرة على العطاء، أن تُرزق بالرضا، أن تُبارك في وقتك وعملك، أن يُكتب لك أثرٌ طيبٌ في الحياة.
فلا تظن أن كثرة المال دليل على الأفضلية. فكل إنسان يُختبر بما أُعطي، واختباره الحقيقي هو في معدن عقليته وروحه، ورب العالمين لا يسأل الناس سواسية، بل يسألهم على قدر طاقتهم وما استخدموا فيه بوصلة عقلهم ومحرك روحهم.
خاتمة تأملية لكل منا معدن يتشكل منه، عقلٌ يغزل رؤيتنا، وروحٌ تحرّك دوافعنا. قد نملك خليطًا من هذه الأنماط، لكن أحدها هو الذي يوجّه دفتنا في الحياة. والسؤال عن معدننا ليس مجرد فضول، بل هو اختبار لمسارنا وعلاقتنا بما رُزقنا، فاسأل نفسك بصدق:
من أي معدن أنت؟ وأي عقل يسكنك؟ وما هو الرزق الذي تسعى إليه حقًا؟ وهل ما أنت عليه، هو ما تريد أن تكونه فعلًا؟