ARTICLE AD BOX
في لحظة فرح خجول، تنفّس السوريون الصعداء وهم يسمعون عن توجّه لتخفيف أو رفع جزئي لبعض العقوبات المفروضة على بلادهم منذ أكثر من عقد. لم تكن زغاريد النصر، بل تنهيدات تعب، ورسائل مُختلطة من الألم والرجاء.
في الأسواق، على الأرصفة، على وجوه الناس في الشام وحلب وطرطوس، انعكست نظراتٌ ملتبسة، بين خوف من الأمل، وفرحٍ متردّد لا يخلو من الشعور بالذنب. إذ سرعان ما سقط هذا الفرح في مرمى الاتهام، وتحوّل في بعض الدوائر السياسية والإعلامية إلى "خيانة لغزّة" أو "خذلان للمقاومة".
هذا الربط الساذج، أو المتعمّد لا يصمد أمام أي منطق أخلاقي، إنساني، أو سياسي، لأنّ هذا الفرح السوري والاحتفالات برفع العقوبات ليس خيانة لغزّة، ولا هو نسيان لجراحها المفتوحة تحت الحصار والقصف والخذلان، وليس تهليلاً للإدارة الأميركية التي تساعد إسرائيل وتمدّها بالسلاح.
أن يفرح السوريون برفع العقوبات أو تخفيفها عنهم، لا يعني أنهم نسوا غزّة، ولا أنهم تخلّوا عن فلسطين. الفرح هنا ليس بيانًا سياسيًا، ولا موقفًا إقليميًا، بل هو لحظة إنسانية خالصة، تعني أن أحدهم قد يتمكّن من شراء علبة دواء، أو إصلاح فرن، أو تسديد قسط مدرسة.
من وقف مع غزّة في كلّ حروبها، من تظاهر لأجل الشيخ جراح، من اعتبر فلسطين بوصلته رغم كلّ شيء، لا يمكن أن يخونها لأنه فرح بانفراجة في معيشته. لا يمكن لأمٍّ في إدلب أن تنسى أمًّا في خانيونس، لأنّ كلتيهما تعرف معنى الخسارة، وكلتاهما دفعت ثمنًا للخرائط الممزّقة والشعارات العالية فوق الجثث.
أن يفرح السوريون برفع أو تخفيف العقوبات عنهم، لا يعني أنهم نسوا غزّة، ولا أنهم تخلّوا عن فلسطين
لم تكن العقوبات المفروضة على سورية مجرّد وسيلة ضغط سياسي، لقد كانت، ولا تزال، آلة خنقٍ مُمنهج لمقوّمات الحياة في بلد أنهكته الحرب والتقسيم والانهيار. منذ أكثر من عقد، بات المواطن السوري يدفع ثمنًا يوميًا لعقوبات ترفع شعار معاقبة النظام، لكنها لم تفعل شيئًا سوى تعميق معاناة الناس، حيث اختفت الأدوية من المستشفيات، انهارت العملة، وتحوّل الخبز إلى معركة يومية. الفلاح لم يعد يزرع، لأن البذور محظورة، والطبيب لم يعد يداوي، لأن المستلزمات ممنوعة، والطالب لم يعد يتعلّم، لأنّ النور انطفأ في قاعات الدراسة. أما الشاب، فهرب أو انطفأ.
تأذى السوريون، شعبًا ونازحين ومقيمين، من العقوبات كما لم يتأذَّ أحد، لم يكن الحصار موجّهًا إلى طاولة الحُكم فقط، بل نزل على أكتاف الأمهات اللواتي يبحثن عن دواء الحمى، وعلى أفران الخبز التي باتت تخبز الألم بدل الطحين، وعلى جامعات أُغلقت أبوابها بوجه العلم والأمل. ارتفعت كلفة الحياة حتى صار العيش نفسه رفاهية لا يقدر عليها إلا القليل.
حين يُطالب البعض بعدم الفرح بعد تخفيف العقوبات عن سورية "لأنّ غزة تنزف"، فإنهم يسقطون في فخ مفاضلة مؤلمة بين جرحين، من قال إنّ رفع الظلم عن شعب هو تكريس للظلم على شعب آخر؟ من قال إن مسح دمعة يتطلّب تجاهل دماء؟
أن نرفع الصوت من أجل سورية لا يعني أن نصمت عن غزّة. أن نطالب بإنهاء الحصار عن دمشق لا يعني أن نتقبّل الحصار على رفح. بل هي فرصة لنعيد بناء خطاب إنساني واحد، لا يجزّئ المأساة، ولا يتعامل معها بمنطق السوق السياسي.
لا يمكن لأمٍّ في إدلب أن تنسى أمًّا في خانيونس، لأنّ كلتيهما تعرف معنى الخسارة
ما يجمع بين دمشق وغزّة، بين إدلب وخانيونس، ليس فقط الألم، بل السبب. قوى الهيمنة، الاستعمار الجديد، الاحتلال، أنظمة الاستغلال، مصالح السوق، أدوات الخنق، كلّها تمارس أدوارها على شعوبنا بوجوه مختلفة، لكن اليد التي تضرب هي نفسها.
إنّ رفع العقوبات عن سورية لا ينبغي أن يُساء فهمه. إنه نداء لإنقاذ الإنسان، لا تبرئة للنظام. وهو ليس تهليلًا سياسيًا، بل صرخة من ضمير حيّ لا يريد أن يرى أطفال الشرق يموتون بصمت، لا في سورية ولا في فلسطين.
من يقف مع غزّة فعلاً، فعليه أن يقف مع سورية حين تُحاصَر، ومع لبنان حين يُنهَك، ومع العراق حين يُنهَب. إنّ من يريد تحرير فلسطين، عليه أن لا يمرّ فوق جثث المساكين في حلب وإدلب، أو يُساوم على الدواء في حمص، أو يصمت على التهريب والفساد والتجويع والتهميش.
رفع العقوبات عن سورية خطوة في الاتجاه الصحيح، ليس لأنها تُنقذ اقتصادًا، بل لأنها تمنح الإنسان السوري فرصة للحياة. لا تعني تطبيعًا مع القاتل، ولا إعادة تأهيل سياسي، بل هي تصحيح لمسار تجويعي فاشل لم يسقط أنظمة، بل سحق شعوبًا.