ARTICLE AD BOX
فوزها قبل أيام بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في "رحلة 404" (2024)، للمصري هاني خليفة، دعوة إلى قراءة أدائها السينمائي عبر شخصية غادة سعيد. الجائزة هذه ممنوحةٌ لها في ختام الدورة الـ73 (2 ـ 9 مايو/ أيار 2025) لـ"مهرجان المركز الكاثوليكي للسينما المصرية" (إضافة إلى ثلاث جوائز أخرى لجديد خليفة: أفضل فيلم للمُنتِجَين شاهيناز العقاد ومحمد حفظي، أفضل مونتاج لمحمد عيد، أفضل تصوير لفوزي درويش)، لكنّها (الجائزة) لن تكون تأكيداً على حِرفية أداء، مُطعّمة بتراكمٍ معرفيّ ومهنيّ يتيح لها (زكي) تجاوزاً لمألوفٍ أحياناً، وابتعاداً عن مهنيّة بحتة عامةً.
فمنى زكي، بجائزة كهذه وكغيرها، أمْ من دون أي جائزة، تمتلك حِرفية أداء غير متكاملة في بهائها، لكنّها (الحِرفية) متمكّنةٌ من إدخال المهتمّ/المهتمّة إلى تفاصيل كثيرة في البنى النفسية والروحية والجسدية للشخصية، ومن إيجاد معادلات بصرية بين التمثيل والدور والشخصية، تُتيح مشاركة حيوية في سيرة تلك الأخيرة، وحكاياتها وانفعالاتها وخلفياتها الاجتماعية والذاتية والحياتية. في "رحلة 404" (معروضٌ حالياً في "نتفليكس")، تُثبت مجدّداً أنّ تلك الحِرفية تُتقن تطوير أدواتها، خاصة أنّ الممثلة حاضرةٌ في المشاهد كلّها (104 دقائق)، فغادة سعيد تستعدّ لأداء فريضة الحجّ، لكنّ حادثةً واحدة تُبدّل الأمور كلّياً، فتنكشف سيرتها المليئة بصدامات وخيبات، وبآمال محطّمة.
بسلاسة وعمق غير مفذلك تقديمه (تأليف محمد رجاء)، تظهر تفاصيل سيرة امرأة محجّبة، تعمل في شركة عقارات. والتفاصيل تلك، المنكشفة منذ تعرّض والدتها لحادث سير، ترتكز أساساً على علاقات متفرّقة: الأهل، العائلة، الحبّ، الزواج، العمل (راهناً وماضياً)، وهذا كلّه من دون ابتعادٍ عن قراءة، وإنْ تكن مبطّنة، لواقع اجتماعي ـ اقتصادي ـ حياتي في بيئة مفضوحةٍ بتناقضاتها بين تشدّد وإيمان، وإسراف في حياة ليلية، سيظهر لاحقاً أنّ كلفة الرغبة في الخلاص منها باهظةٌ.
عالم "النهار"، إنْ يصحّ الوصف، غارقٌ في جهد يومي لتأمين عيشٍ سوي، غير مكتمل بسويته بسبب ظروف الاقتصاد والمصالح. وعالم الليل، وإنْ يمتدّ إلى نهاراتٍ متتالية، يُشكِّل المساحة الأوسع لصخبٍ وعنفٍ (جسدي ولفظيّ) موارِب ومباشر، ما يؤدّي بغادة سعيد إلى الخروج منه بالتزامٍ ديني، من دون معرفة لحظة الخروج وسببه الواضح والمُحدَّد، وهذا غير مهمّ أساساً. حادث السير يُدخل الوالدة إلى المستشفى، فيتعرّى الجميع أمام كاميرا تتحوّل إلى ما يُشبه مطهراً لغادة أولاً، وللآخرين، وإنْ بنسبٍ متفاوتة، وبنهاياتٍ غير كاملةٍ بالنسبة إلى البعض، إذْ يبدو أنّ هذا البعض غير متمكّن من التطهّر كلّياً، أو ربما هكذا يُراد له أنْ يظهر، مع أنّ في النهاية تلك "خلاصاً" ما لغادة تحديداً.
الدخول إلى المستشفى يتطلّب مالاً، لكنّ غادة، التي تحاول تنصّلاً فعلياً من الأم/المرأة وتركها وحدها، غير مالكةٍ مالاً باستثناء ذاك المدفوع للحجّ سلفاً، ما يدفعها إلى بحثٍ مُضنٍّ عن المال، وهذا (البحث المضني) يظهر في ملامح الوجه وحركات الجسد ونبرات الصوت والكلام الذي يُقال، والمخبّأ الذي يتسلّل تدريجياً إلى الضوء. في هذا، تبدو زكي كأنّها مختلفةٌ كلّياً عن أدوار سابقة لها، من دون تناسي حضورها الأدائي الجميل في أفلامٍ عدّة، كـ"سهر الليالي" (2003) لخليفة أيضاً، و"اضحك الصورة تطلع حلوة" (1998) لشريف عرفة، و"ولاد العمّ" (2009) لعرفة أيضاً، وتحديداً في "إحكي يا شهرزاد" (2009) ليُسري نصرالله. هناك أيضاً مشاركتها في "كحك الثورة" (تأليف وتمثيل أحمد حلمي، إخراج خالد مرعي)، المنجز في الفيلم الجماعي "18 يوم" (2011)، و"أصحاب ولا أعزّ" (2022) لوسام سْمَيْرة. هذه نماذج غير لاغية أفلاماً أخرى، تُبرز منى زكي فيها ما تمتلكه من جماليات أدائية، ستكون غادة سعيد ذروتها الأجمل.
كلّ الماضي ثقيلٌ في حياة غادة. هذا واضح. بحثها عن المال درب جلجلة فعلية، غير محصورة في الشاشة، لتمكّنها من النفاذ إلى خارجها. الإمعان في التعذيب النفسي غير مُبالغ به البتّة، فالتطهّر غير سهلٍ، وكلّ فردٍ تلتقيه له معها حكاية مؤلمة ومضطربة وقاسية، ومسؤولية ذلك واقعةٌ على الطرفين غالباً، مع أنّ في مسام "رحلة 404" ما يشي بأنّ غادة نفسها أكثر تألمّاً وخيبة وقهراً وانكساراً. فهل يكون الحجّ اغتسالاً أخيراً؟ عنوان الفيلم يشي بالعكس، فرقم "404" يظهر في شبكة الإنترنت عندما يكون المطلوب مُعطّلاً، أو غير متوفّر.
لن يكون مفيداً قول التفاصيل كلّها، وإنْ يكن سردها غير حائل دون متعة درامية وجمالية وسردية للمُشاهدة. فلغادة تجارب مريرة، منها عملها فتاة ليل في خدمة شهيرة (شيرين رضا). حبٌّ (غير واضحٍ كلّياً) يؤدّي إلى زواج سيفشل لاحقاً بسبب انغماس طارق عبد الحميد (محمد فراج) بالمخدرات، هو الغارق في عتمةٍ تُسبّبها أمّه في مراهقته. هناك حبٌّ واضح يصدم غادة بـ"هروب" المحبوب طارق عبد الحليم (محمد ممدوح). وغيرها.
قصص تُنبش من دون قصد، ورحلة تُشبه درب جلجلة، وخلاصٌ ملتبس، وهذا كلّه مكتوبٌ بسلاسة وعمق، ومُصوّر بشفافية وتفكيك، ومُنجز في فيلمٍ، تبقى منى زكي نواته الأساسية، رغم أداءات منسجمة تماماً مع نفوس شخصيات وانفعالاتها وخرابها.
