ARTICLE AD BOX
في حديث ودي مع صديق صيدلاني، مهاجر من سورية، طرح عليّ سؤالاً مفاجئاً:
- هل تعلم أنك تُعتبر إسرائيلياً؟
ارتسمت علامات الدهشة على وجهي، وارتفع حاجباي لا إرادياً. وقبل أن أتمكّن من الاستفسار عن قصده، بادرني بالقول:
- نحن (المهاجرون إلى كندا ونيوزيلندا وأستراليا وأميركا) يُنظر إلينا من السكان الأصليين كما يَنظر الفلسطيني إلى الإسرائيلي القادم ليستوطن أرضه.
توقّف حديثنا هناك، لكن بقي السؤال عالقاً في ذهني: هل نحن، فعلاً، "إسرائيليون" في نظر السكان الأصليين للبلدان التي هاجرنا إليها؟
أتذكّر ذات يومٍ حين كنت أعمل في إحدى الصيدليات بمدينة إدمنتون، أنه نظر إليّ أحد المرضى من السكان الأصليين، وقال لي بصوت مُمتزج بالألم:
- هل تعلم كم الأذى ألحقه بنا هؤلاء؟ (مشيراً إلى الكنديين البيض).
تابع حديثه قائلاً:
- هم السبب الرئيسي وراء إدماننا على المخدرات... نحاول فقط أن نتجاوز هذا الألم.
وقفت حينها عاجزاً عن الرد، لا أملك سوى أن أعبّر له عن أسفي العميق وتعاطفي الصادق مع معاناته.
مؤخراً، تصدّرت وسائل التواصل الاجتماعي مشاهد للنائبة النيوزيلندية هانا-روهيتي مايبي-كلارك، وهي تحتج بطريقتها الخاصة على بعض القوانين. وأثارت ضجة عندما صرّحت أثناء أدائها القسم البرلماني بأنّ "بلادها محتلة"، قبل أن تُجبر على إعادة القسم بالطريقة الرسمية من دون إضافة تعليقات.
الاستيطان ليس مجرّد انتقال من مكان إلى آخر، بل هو سطوٌ على الأرض، وبطشٌ بالشعب الأصلي
رسالتها كانت واضحة: هناك اعتراف ضمني بأنّ بلادها (نيوزيلندا) قد جرى احتلالها وتغيير تركيبتها السكانية على حساب السكان الأصليين.
هذا المشهد يختصر واقعاً مريراً، مُشتركاً بين دول عدّة: أراضٍ استُوطنت بالقوّة، جرى فيها تهميش السكان الأصليين، وتعرّضوا لشتى أنواع الانتهاكات من قتل وتعذيب وفصل الأطفال عن العائلات بذريعة "تحسين النسل" أو "التمدين". لاحقاً قامت بعض الدول بمحاولات خجولة للمصالحة وتقديم اعتذارات وهبات مالية، من دون محاسبة جدية للمسؤولين عن الجرائم.
في سياق مشابه، التقيتُ مؤخراً فتاةً إسرائيلية حدّثتني عن قصة هجرتها. ولدت في بيلاروسيا، ثم انتقلت مع عائلتها إلى إسرائيل وهي في العاشرة من عمرها.
ومع مرور السنوات، وبعد أن أسّست عائلتها هناك، بدأت تشعر أنّ إسرائيل لم تعد المكان المناسب لها ولأطفالها، لا سيّما بعد أحداث السابع من أكتوبر، إذ فقدت إحساسها بالأمان الذي كانت تظنّه راسخاً.
أوّل ما شدّ انتباهها بعد وصولها إلى كندا كان "لطف الكنديين"، الذين (كما قالت) يعتذرون لأتفه الأسباب، على عكس ما كانت معتادة عليه في إسرائيل.
اشتكت أيضاً من قسوة المناخ، إذ كانت تعيش قرب تل أبيب مع درجات حرارة تتجاوز ٣٥ درجة مئوية صيفاً، لكنها اعترفت بصراحة أنها لا تحمل أيّ انتماء عاطفي لأرض إسرائيل، بل تفتقد أصدقاء طفولتها فحسب.
ربما، حين نتمعّن في كلّ هذه القصص، ندرك أنّ الاستيطان ليس مجرّد انتقال من مكان إلى آخر، بل هو سطوٌ على الأرض، وبطش بالشعب الأصلي، وفرضٌ لثقافةٍ ونمط حياةٍ جديد بالقوة، على حساب هُويّة قائمة وجذور ممتدّة في المكان.
وعلى النقيض من ذلك، تأتي الهجرة فعلاً انتقالاً يجري برضا الطرفين، يقوم على الاندماج في ما هو قائم، وتقبّل الآخر واختلافه.
ربما، في أعين بعض السكان الأصليين، نحن المهاجرون، لا نبدو سوى "إسرائيليين/مستوطنين" آخرين، جاؤوا ليُعيدوا رسم مصير أرض ليست لهم.