ARTICLE AD BOX
شكّلت العمارة الفلسطينية قبل نكبة 1948 امتداداً حيّاً للهوية والبيئة، إذ كانت غنية بأصالتها وتنوّعها من الجبل إلى الغور. أما بعد النكبة، فدخلت في مسار من التهجير والتشويه، لتتحول من ملامح مستقرّة إلى شواهد على الفقد والصمود.
يرسم الباحث والمؤرخ الفلسطيني نظمي الجُعبة، في حديثه إلى "العربي الجديد"، ملامح العمارة الفلسطينية قبل عام 1948، مشيراً إلى غناها وتنوعها من ناحية الشكل والمواد والوظيفة، وانقسامها بين تقليد راسخ، وتأثيرات عالمية مستجدّة بدأت بالتسلل منذ القرن التاسع عشر.
يبدأ الجُعبة بالحديث عن العمارة التقليدية التي سادت فلسطين قبل منتصف القرن التاسع عشر، إذ كانت تتنوع بحسب الجغرافيا والمناخ. في المناطق الجبلية الممتدة من الخليل إلى جنين، اعتمد السكان على الحجر المحلي مادّةَ بناء أساسية، واستخدموا الأقواس المتقاطعة أو القباب لسقف منازلهم، وهو نمط شائع في عمارة تلك المناطق.
أما في منطقة الحولة، فكانت العمارة تستند إلى القصب المتوفر بكثافة حول البحيرة، نتيجة لطبيعة المنطقة شبه المستنقعية. وفي الأغوار، اعتمد السكان على الطوب المجفف بالشمس، فتُغطّى الأسقف بخشب، يُغطى بدوره بطبقة من الطين، ما شكّل نمطاً آخر من العمارة الشعبية الريفية.
يُفرّق الجُعبة بين هذه الأنماط الشعبية والعمارة الدينية، التي تتجلى في معالم كبرى، مثل كنيسة القيامة وكنيسة المهد، وقبة الصخرة والمسجد الأقصى. هذه المباني تميزت بضخامتها واستخدامها الأسقف الخشبية، واعتمدت على أخشاب مستوردة من لبنان (أرز جبل لبنان)، وأحياناً من أوروبا وتركيا، نظراً إلى ندرة الأخشاب في فلسطين. يرى الجُعبة أن هذه المعالم تنتمي إلى التراث العالمي، وليست نماذج لعمارة الحياة اليومية.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت فلسطين تشهد تحولاً معمارياً تدريجياً بفعل الانفتاح على العالم، فظهور الآلة البخارية وتطور النقل البحري سهّلا دخول مواد جديدة وأفكار معمارية من أوروبا. يُشير الجُعبة إلى كنيسة المسيح التي بنتها بعثة تبشيرية بريطانية عام 1853 في القدس، بوصفها نموذجاً مبكراً للعمارة القوطية الحديثة، وربما أول مبنى أوروبي بالكامل في فلسطين. يذكر أن مبنى القشلة الذي شيّده إبراهيم باشا بن محمد علي في القدس عام 1838 قد حمل بدوره بعض ملامح العمارة الحديثة، بتأثير مباشر من حركة التحديث التي قادها محمد علي في مصر.
مع تسارع النشاط التبشيري في فلسطين، بدأت كل بعثة تبني مؤسساتها على الطراز الوطني الخاص بها؛ فالألمان شيدوا مباني بطراز ألماني، والروس بطراز روسي، والإنكليز على طرازهم، وهكذا. وقد تركز هذا التنوع في مدن رئيسية، مثل القدس ويافا والناصرة.
بحلول عام 1880، ظهرت نماذج جديدة من العمارة السكنية أنجزها الهيكليون الألمان الذين أسسوا مستعمرات مثل الحي الألماني في القدس وحيفا. جلب هؤلاء نموذج البيت الألماني المكوّن من طابقين وسقف قرميدي مائل مدعوم بخشب، مبني من الحجارة، والمستوحى من طراز منطقة شتوتغارت جنوب غربي ألمانيا. انتشر هذا الطراز لاحقاً في الأحياء الحديثة خارج مراكز المدن القديمة.
في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً عام 1878، أُدخلت الهياكل الحديدية في البناء، كما في المستشفى الاسكتلندي في الناصرة. ورغم أن استخدام الحديد ظل محدوداً حتى إنشاء خط سكة الحديد، إلا أن هذه التقنية أدت لاحقاً إلى استبدال القباب والأقواس التقليدية بأسقف مستوية تعتمد على الدعامات الحديدية، وبدأ هذا التحول في المدن، بينما استمرت القرى على نمطها التقليدي.
يوضّح الجُعبة أن بدايات القرن العشرين شهدت تدخلاً واضحاً مارسه المهندسون المعماريون، سواء الغربيون أو الفلسطينيون، الذين بدأوا بوضع المخططات الهندسية للمباني. وبدأ استخدام الإسمنت والخرسانة المسلحة في عشرينيات القرن الماضي، ما أضاف بُعداً جديداً إلى أنماط البناء.
مع حلول عام 1948، كانت فلسطين تعيش حالة معمارية مركبة، إذ تداخلت أنماط العمارة التقليدية والعثمانية والأوروبية، أحياناً بانسجام وأخرى بتناقض. ففي القدس القديمة، ظلت الغالبية العظمى من المباني على طابعها التقليدي القائم على القباب والعقود، التي تعود إلى فترات تاريخية متعاقبة: صليبية وأيوبية ومملوكية وعثمانية. ومع ذلك، ظهرت داخل البلدة القديمة مبانٍ حديثة، مثل مدرسة الفرير التي بُنيت عام 1878 بطراز أوروبي، وكنيسة المخلص التي شيّدها الألمان قرب كنيسة القيامة وتميزت ببرجها الشاهق.
يؤكد الجُعبة أنه في العقود التي سبقت نكبة عام 1948 شهدت المدن الفلسطينية، ولا سيما البلدة القديمة في القدس ومدن الساحل، نشاطاً معمارياً لافتاً ساهم فيه عدد من المهندسين الأوروبيين، وخاصة الإيطاليين الذين صمّموا كنائس صغيرة وكبيرة، ما أوجد حالة من التعايش بين الطرز المعمارية التقليدية والمستحدثة. هذا التعايش لم يكن مقتصراً على المباني الأجنبية، بل تجاوب معه الفلسطينيون أنفسهم، إذ بدأوا في تبنّي الأساليب الغربية في البناء.
هكذا، لخص الجُعبة المشهد المعماري الفلسطيني قبل النكبة كما لو أنه فسيفساء متعددة الطبقات، تعكس تفاعل المجتمع الفلسطيني مع بيئته، وتجاوبه مع التأثيرات العالمية، من دون أن يتخلى عن هويته وخصوصيته المعمارية.
في العقود التي سبقت النكبة عام 1948 شهدت المدن الفلسطينية نشاطاً معمارياً لافتاً
لكن عام 1948 مثّل قطيعة حادة. فمع تحوّل مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى لاجئين، نشأت حاجة ملحّة لإسكان أعداد ضخمة في وقت قصير. لم تُبنَ جميع المساكن في المخيمات، بل بنت جهات استثمارية محلية مساكن سريعة، يصفها الجُعبة بأنها مشوّهة من الناحية الجمالية والمعمارية، ولا تزال آثارها قائمة في مدن مثل رام الله والقدس ونابلس والخليل. كانت هذه المساكن تفتقر إلى الحرفية والذوق، وتشكّل بداية انحدار واضح في الذائقة المعمارية.
وعند الغوص في الطبقات الأقدم من تاريخ فلسطين المعماري، يؤكد الجُعبة أن نمط البيت المرفق بالساحة ظل متجذّراً في البيئة الفلسطينية منذ القدم، وتكشف عنه الحفريات الأثرية باستمرار. في الريف، كانت الساحة (الحوش) تُستخدم لتربية الحيوانات، وطهي الطعام، وللاحتياجات المنزلية اليومية. أما في المدينة، حيث التلاصق العمراني والازدحام، فقد أخذت الساحة وظيفة أكثر خصوصية، فهي تُستخدم للحركة والتهوية والجلوس، وكانت مركزاً للنشاط الاجتماعي والنسوي اليومي، وأحياناً تضم نافورة صغيرة، كما في بعض بيوت نابلس والقدس، رغم أن ندرة المياه منعت تعميم هذا الطراز كما في دمشق مثلاً.
وفي سياق النكبة، يُشدّد الجُعبة على أن ما حدث لم يكن عشوائياً. فالتدمير المنهجي للقرى الفلسطينية لم يكن فقط وسيلة للتطهير العرقي، بل جاء بهدف محو الوجود الفلسطيني ومنع عودته، سواء مادياً أو رمزياً. العديد من القرى أُزيلت بالكامل وزُرعت فوقها غابات لإخفاء معالمها، حتى بات من الصعب على أبنائها تحديد مواقعها الأصلية.
ورغم أن الضفة الغربية لم تشهد نفس مستوى التدمير الممنهج، فإن فترة الخمسينيات والستينيات حملت معها نوعاً آخر من الانقطاع، تمثّل في هجران البلدات القديمة وبناء مساكن حديثة خارجها، ما ساهم في تدهور العمران التاريخي. وقد وصف الجُعبة هذا التحول بأنه جريمة معمارية، أدّت إلى تهالك العديد من القرى، بل وتدمير أجزاء منها.
لحسن الحظ، ظهرت في مطلع التسعينيات مبادرات لإحياء هذا التراث، بدأت مع تأسيس مؤسسة رواق عام 1991، التي عملت على توثيق المباني التاريخية وترميمها ونشر الوعي بأهميتها. تبعتها مبادرات أخرى، مثل لجنة إعمار الخليل، ومركز حفظ التراث الثقافي في بيت لحم، ومؤسسة التعاون في القدس، ومؤسسات أخرى في نابلس. وقد ساهم هذا الحراك في إنقاذ ما تبقّى من إرث معماري مهدد.
يرى الجُعبة أن التحولات الجوهرية في العمارة الفلسطينية جرت في الفترة التي سبقت النكبة، أما الخسائر بعد 1948 فكانت فادحة، ليس فقط في عدد المباني وإنما في فقدان ذاكرة كاملة لقرى بأكملها. إذ دُمرت مئات القرى، كل منها يحتوي على عشرات البيوت، المقامات، المساجد، الكنائس، والمعاصر، وغالباً دون أي توثيق، سوى ما تبقى من صور فردية في أيدي من تبقّى من أهلها.
ويشبّه الجُعبة ما يحدث في قطاع غزة اليوم بما جرى عام 1948: تدمير ممنهج لا يستثني شيئاً، من المساجد والكنائس إلى البيوت والمراكز الثقافية والترفيهية، في محاولة متجددة لاقتلاع الوجود الفلسطيني من جذوره، مادياً ووجدانياً.
يُشير الجُعبة إلى أن الاحتلال الإسرائيلي، بعد عام 1967، استولى على المخططات الهيكلية للقرى والمدن في الضفة الغربية، مانعاً توسّعها العمراني إلا في حالات نادرة. هذا التقييد الجغرافي القسري أجبر العمارة الفلسطينية على التحول من الأفق إلى العمود، فبعد أن كانت البيوت تُبنى أفقياً باتت تتجه نحو البناء العمودي المرتفع بسبب شح الأراضي.
كما أن الضغط على المساحات دفع العديد من البلدات والقرى إلى التعدي على بلداتها القديمة، لتجرف أجزاء منها لصالح إنشاء مدارس ومساجد ومبانٍ حديثة، ما ساهم في اندثار نسيجها العمراني التاريخي.
أما في أراضي الداخل المحتل عام 1948، فيلفت الجُعبة إلى أن عدداً من القرى لم يُدمّر بالكامل، مثل قرى الجليل والمثلث والناصرة، وأجزاء من يافا وحيفا، بينما بقيت مدينة عكا القديمة على حالها. إلا أن الاحتلال استولى على أحياء فاخرة كانت للفلسطينيين، مثل الطالبية وعين كارم في القدس الغربية، واعتبرها جزءاً من "التراث الإسرائيلي". حتى قرية لفتا المهجّرة، التي بقيت ببيوتها القديمة المهجورة، عمد الاحتلال إلى إعادة تأطيرها باعتبارها "نموذجاً للقرية اليهودية القديمة" التي يُفترض أنها كانت قائمة منذ آلاف السنين، في محاولة لخلق سردية زائفة تقوّض الوجود الفلسطيني التاريخي.
يؤكد الجُعبة أن هذا التزييف لم يقتصر على المعمار، بل امتد ليشمل كل ما هو فلسطيني: بدءاً من الفلافل، إلى التطريز والزي الشعبي. فالصهاينة القادمون من بيئات متعددة، من الشرق والغرب، ومن الشمال والجنوب، سعوا إلى صناعة هوية هجينة موحّدة تجمعهم، فاستعاروا المكونات الثقافية الفلسطينية ونسبوها إلى أنفسهم. وهنا تأتي العمارة كواحدة من أبرز أدوات الأسرلة، أي تهويد المشهد الحضاري الفلسطيني.
أما العمارة الفلسطينية المعاصرة، يقول الجُعبة، فإنها ابتعدت كثيراً عن أنماط البناء التقليدي، واندمجت في تيارات العولمة، خاصة عمارة الزجاج والخرسانة المسلحة، بما أفقدها صلتها بالبيئة والهوية المحلية. ويعرب عن أسفه لأن القليل من المباني الجديدة تستلهم، ولو جزءاً بسيطاً، من الخصائص التقليدية. السبب، برأيه، يعود إلى أن معظم المعماريين الفلسطينيين درسوا في الخارج، أو تلقوا تعليمهم على أيدي أساتذة درسوا في جامعات أجنبية، ما أدى إلى قطيعة معرفية مع التراث المعماري المحلي.
يضيف الجُعبة بأسف: "نحن اليوم نرى مباني في رام الله أو نابلس لا يمكنك من خلالها تحديد موقعك الجغرافي، قد تكون في نيويورك أو الدوحة أو باريس". غابت الخصوصية، وحلّت محلها عمارة عابرة للهوية، ما يجعل من الضروري أن يتحمّل المعماريون مسؤولياتهم الوطنية. تماماً كما يسهم الشاعر أو الكاتب أو الفنان في الحفاظ على الهوية الفلسطينية، فإن المهندس المعماري مدعو إلى أن يفعل الشيء نفسه من خلال تصاميم تعبّر عن الأرض والانتماء.
العمارة، بحسب الجُعبة، ليست فقط مظهراً للنوستالجيا، بل تمثل حقاً راسخاً في الأرض، وشاهداً على الانتماء. فهي تجسد عمق التراث الفلسطيني، وارتباطه العضوي بالأرض، وتشكل دليلاً ملموساً على حق العودة. لهذا السبب، يحتفظ اللاجئ الفلسطيني برموزه: مفتاح البيت، والكوفية، والثوب المطرّز، في حين أن البيت نفسه، وإن لم يتمكن من حمله، بقي هناك، شاهداً وصامتاً على وجود لم يُمحَ.
يؤكد الجُعبة أن البيت الفلسطيني القديم يشكّل مصدراً لفهم العلاقة بين الإنسان وبيئته، ودليلاً على مرونة الفلاح الفلسطيني وتكيّفه مع محيطه. لهذا، فإن حماية هذا الإرث وتوثيقه وترميمه هو فعل مقاومة يومي لا يقل أهمية عن أي شكل آخر من النضال. إنه حق لا يُختزل في العاطفة، بل في تثبيت الوجود وتجذير الهوية.
ولدى سؤاله عن القرية التي يتمنى ترميمها، أجاب الجُعبة بلا تردد: لفتا، التي تُشكّل بالنسبة له مثالاً حياً على عبقرية الفلاح الفلسطيني في التصميم والبناء، وعلى انفتاحه على العالم. لفتا، الواقعة على بوابة القدس الغربية، ليست مجرد حجر وتراب، بل رسالة صمود وتشبّث بالهوية.
