ARTICLE AD BOX
يثير كتاب "هل النقد علماني؟" لمجموعة من المفكّرين، وهم طلال أسد وصبا محمود وجوديث بتلر، تساؤلات جوهرية عن العلاقة التي قد تبدو بديهية للبعض بين مفهومي النقد والعلمانية. ففيما يرى البعض، كما يذكر الكتاب، أنّ النقد، وخصوصاً في شكله الحديث، قد نشأ وترعرع في أحضان التنوير العلماني، بل ويُعرّف نفسه من خلال إزاحة السلطة الدينية، فإنّ تفكيكًا أعمق لتاريخ المصطلح وتجلّياته المعاصرة يكشف عن علاقة أكثر تعقيدًا وإشكالية.
إذ يتحدّى الكتاب الافتراض السائد بأنّ النقد بطبيعته علماني، وأنّ العلمانية هي الضمانة الوحيدة لنقد حقيقي وموضوعي. ويدعم أسد والمساهمون الآخرون هذا التحدي بالعديد من النقاط؛ فهم يرون أنّ جذور مفهوم النقد أقدم من صعود العلمانية الحديثة في الغرب، حيث كانت فكرة التقييم والحكم موجودة في سياقاتٍ غير علمانية. كذلك يؤكّدون أنّ العلمانية نفسها ليست موقفًا محايدًا أو عالمًا خاليًا من القيم والمعتقدات، بل تحمل تاريخًا وتطوّرًا ارتبط بالقوى الغربية، وقد تنطوي على تحيّزاتها الخاصة، ما يجعل النقد المُنطلق من منظور علماني ليس بالضرورة أكثر موضوعية أو تحرّرًا من التحيّزات الدينية. ويتساءل الكتاب عن الكيفية التي أصبح بها النقد يُعرَّف بأنه علماني، وكيف أصبحت العلمانية تُفهم على أنها ما يحيي النقد، مشيرين إلى وجود افتراض ضمني بأنّ العقل العلماني هو القادر الوحيد على كشف الخطأ والوصول إلى الحقيقة. وهذا قول أقل ما يُقال عنه أنه استشراقي استعلائي بحت، إذ يُعتبر النقد أوروبيًا بحتًا ولا يمكنه أن ينشأ في بيئة غير أوروبية، علمانية ليبرالية، وبأنّ العقل (العقل العلماني أو العقلانية الحديثة) لديه القدرة المطلقة على كشف الخطأ وتحديد ما هو صواب وما هو خاطئ. بل إنّ الكتاب يدعو إلى نقد النقد العلماني ذاته، الذي غالبًا ما ينطلق من افتراضات التنوير حول ضرورة إزاحة السلطة الدينية، متجاهلًا بذلك أشكال القوّة والإكراه الأخرى غير الدينية. وتُستخدم قضية التجديف مثالًا لتوضيح هذا الإشكال، حيث يُنظر إليها في المنظور العلماني الغربي على أنها قيد على حرية التعبير بحيث تُستغَل هذه الثغرة من أجل شرعنة الإساءة إلى الأقليات الدينية الموجودة في البيئة الأوروبية العلمانية وتصبح بذلك إسلاموفوبيا مقنّعة. ولقد ضرب الكتاب قضيّة الرسوم الكاريكاتورية الشهيرة المُسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، إذ يرون أنّ هذا المنظور ينطلق من رؤية غربية فردية للحرية، ويتجاهل أشكال الإلزام الأخرى الموجودة حتى في المجتمعات الليبرالية. أخيرًا، يشير الكتاب إلى أنّ الرواية التاريخية السائدة حول نشأة العلمانية من المسيحية وتطورها نحو الديمقراطية والحرية تتجاهل الجوانب المظلمة من التاريخ الغربي، مثل الاستعمار والعنصرية.
النقد المنطلق من منظور علماني ليس بالضرورة أكثر موضوعية أو تحررًا من التحيزات الدينية
ويطرح أسد السؤال طرحًا مؤثرًا: لماذا العدوان باسم الإله يصادم الأحاسيس الليبرالية العلمانية، في حين أنَّ فعل القتل باسم الدولة العلمانية، أو الديمقراطية، ليس له التأثير ذاته؟ وهو يشير إلى أنَّ هذا النوع من التناقض أو الانقسام قد يشكل "توتّرًا" في صلب الذات الحديثة.
يُشير الكتاب في بدايته إلى أنّ جذور مفهوم النقد (krisis) تعود إلى أثينا القديمة مصطلحًا قضائيًا، يحمل في طياته دلالات الحكم والمعرفة والإصلاح، ويندمج فيه الذات والموضوع بشكل عملي. هذا الأصل القضائي، الذي يختلف عن التوصيفات الحديثة، يفتح الباب أمام التساؤل عن مدى التصاق النقد بالضرورة بالسياق العلماني الحديث. ويُقدّم أسد في مساهمته تمييزًا هامًا بين مصطلحي "critique" و"criticism"، وهو تمييز غالبًا ما يُطمس في الترجمة العربية بكلمة "النقد". فالأول يرتبط بالبحث العميق عن الشروط القبلية لظهور الموضوعات، بينما الثاني يتصل بالنقد الفاحص والمتأمّل، ولكنه يحمل أيضًا دلالات النقد السلبي وإصدار الأحكام. هذا التمييز اللغوي يشير إلى أن "النقد" ليس مفهومًا أحادي الدلالة، وأنّ ارتباطه بالعلمانية قد يكون أكثر قوّة في أحد تجلياته ("critique") منه في الآخر ("criticism").
وفي ذات السياق، يُشدّد الكتاب على أنّ النقد الحديث، خصوصاً عند كانط وماركس، سعى للتمييز عن "النقاد الثاقبين" و"النقاد الناقدين"، ما يوحي بوجود وعي مبكر بمخاطر النقد الذي يتحوّل إلى مجرّد إدانة أو رفض سطحي. ومع ذلك، فإنّ الممارسات النقدية المعاصرة، تحت شعارات النقد الأيديولوجي والثقافي ونقد الهوية، غالبًا ما تستدعي مفهوم "critique" للتعبير عن رفض جدلي أو لممارسات تفكيكية، حاملة في طياتها افتراضًا ضمنيًا بقدرة العقل على كشف الخطأ. وهذا الافتراض العقلي الكاشف للخطأ هو ما يربط النقد بالعلمانية في تصوّر الكثيرين.
الرواية التاريخية السائدة حول نشأة العلمانية تتجاهل الجوانب المظلمة من التاريخ الغربي مثل الاستعمار والعنصرية
إذ يُفكّك الكتاب أيضًا القصّة السائدة حول نشأة العلمانية من المسيحية، مشيرًا إلى أنّ هذه الرواية غالبًا ما تتجاهل تاريخ الاستعمار والعنصرية الذي ارتبط بالدول الغربية "العلمانية". هذا التفكيك التاريخي يدعونا إلى التشكيك في الادعاء أنّ العلمانية هي بالضرورة مرادف للعقلانية والحرية، وبالتالي، فإنّ النقد المُنطلق منها هو بالضرورة متحرّر ومُنصف.
ويطرح هنا طلال أسد التساؤل الآتي: إذا كانت العلمانية والنقد يندرجان في العديد من الاتجاهات، وهما غير ثابتين حتى في معانيهما وحيّزهما، فكيف أصبحا مرتبطين تمامًا؟ فعلاً، كيف أصبح النقد يُعرَّف بوصفه علمانيًا، وكيف أصبحت العلمانية تُفهم باعتبارها ما يبثّ الحياة في النقد وما يثمر منه؟
من الواضح أنّ مجموعة من تصوّرات التنوير هي جزء مما سمح للنقد بأن ينسجم مع العلمانية بيسر بالغ: من ستيوارت مل إلى ماركس، ومن ديدرو إلى كانط وهيوم، تلاقي افتراض التنوير بأنّ الصحيح، والموضوعي، والحقيقي، والعقلاني، بل وحتى العلمي، لا يظهر إلا بإسقاط السلطة الدينية أو بإسقاط "التحيّز". يصل هذا الافتراض إلى ذروته في القول الكانطي المأثور بأن "كل شيء يجب أن يخضع للنقد، حتى العقل نفسه"، وأيضًا في محاولة هيغل للكشف عن النواة العقلانية للمسيحية من خلال التاريخ الروحي النقدي ومن خلال الظاهراتية (الفينومينولوجيا.) ومن هنا كانت القناعة بأنّ النقد يستبدل السلطة الدينية بأيّ سلطة أو تحيّز آخر لا أساس له بالعقل، حتى لو فُضّل على الدين نفسه. ومن هنا أيضًا، كانت القناعة بأن النقد يستبدل العقيدة بالحقيقة، والذاتية بالعلم؛ فالنقد هو، باختصار، علماني.
ولكن هذه، كما يجادل أسد، ليست إلا نتيجة للغطرسة الغربية للفرد، المالك لنفسه، الزاعم حريته من كلّ أشكال الإكراه، بما فيها تلك التي يستلزمها الدين، والتجارة، والحبّ، والإيمان، والسلوك. يطعن أسد في كون هذه الفكرة حقيقة مجردة (مذكِّرًا إيانا بالالتزامات القسرية اليومية التي تمارسها القوى غير المنطوقة، المقرّرة ضمن النظم الليبرالية)، ويشير أيضًا إلى أنها تتلاقى حدودها في مجموعة متنوّعة من قضايا التعبير في المجتمعات الليبرالية، وزعمت حنة آرندت زعمًا مشهورًا بأنّ السياسات العنصرية الإمبريالية الأوروبية كانت أساسية لنشوء الفاشية في أوروبا. وبالتالي، ليس سهلاً فهم المراد بالضبط عندما يُزعم أن "الديمقراطية" و"حرية التعبير" جوهرية "للحضارة الأوروبية"، في حين أنّ عدم المساواة والقمع جوهرية "للحضارة الإسلامية".
في الختام، يبدو أنّ العلاقة بين النقد والعلمانية ليست علاقة تطابق أو تبعية بسيطة. فبينما نشأ النقد الحديث في سياق صعود العلمانية، وحمل معه افتراضات عقلانية، فإنّ تاريخ المصطلح وتجلياته المعاصرة، بالإضافة إلى التساؤلات عن انحيازات العلمانية نفسها، يدعونا إلى إعادة فحص هذه العلاقة. إنّ النقد الحقيقي، ربما، لا ينبغي أن يكون علمانيًا بشكل أعمى، بل يجب أن يكون نقدًا للعلمانية نفسها، وأن يُسائل أسسها وحدودها، تمامًا كما يسائل أيّ نظام آخر من أنظمة المعرفة والقوة. إنّ التفكير النقدي العميق يتطلّب منا تجاوز الثنائيات الساذجة بين العلمانية والدين، والاعتراف بأنّ السلطة والإكراه يمكن أن يتجسّدا بأشكال متنوّعة، سواء كانت دينية أو علمانية. فالسؤال: هل النقد علماني؟ يُطرح أيضًا في مرحلة سياسية وتاريخية يواجه المثقفون فيها ما يُشبه الاختيار بين التواطؤ مع الخطابات الإمبريالية وغير الانعكاسية الغربية، للعقلانية والعلمانية من جهة، ومع تحديات الافتراضات الغربية لاحتكار حقيقة العلمانية، والعقلانية والحرية وحتى الديمقراطية، ومعانيها ومحتواها من ناحية أخرى.