ARTICLE AD BOX
من مكر التاريخ أن يعلّق عراقيون آمالهم من جديد على الولايات المتحدة، كي تعمل على تحرير بلادهم من قبضة "الولي الفقيه"، وهي نفسها من قدم العراق إلى طهران على طبقٍ من ذهب، وينسى هؤلاء أن الغزو الأميركي أعادهم عقوداً إلى الوراء، وسبّب كل هذا الخراب الذي ما زالوا يعانون منه منذ أكثر من عشرين سنة عجفاء.
صحيحٌ أن الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، دان أكثر من مرّة عملية غزو العراق، واعترف بأن نظام صدّام حسين كان يمكن أن يشكّل المصدّ العملي لحركات الإرهاب التي أغرقت المنطقة، وقوّضت استقرارها، إلا أن تلك الإدانة، وهذا الاعتراف جاءا بعد "خراب البصرة"، وفي إطار تحميل أسلافه كل الأوزار التي نشأت عن الغزو، وإبراز شخصه رسول سلام، ورافضاً الحروب.
واللافت أن يستأثر مشروع القانون الذي قدّمه مشرّعان أميركيان، جو ويلسون (جمهوري) وجيمي بانيتا (ديمقراطي)، بخصوص "تحرير العراق من إيران"، بكل هذا الاهتمام من ناشطين سياسيين وإعلاميين، وقد غالى بعضُهم إلى درجة تحميل هذا المشروع أكثر مما يحتمل، مروّجين أن الهدف منه إنهاء "العملية السياسية" الطائفية الماثلة، ووضع جدول زمني لفترة انتقالية يحكم العراق فيها من شخصيات وطنية، تشرع دستوراً جديداً يؤهل البلاد لإقامة نظام ديمقراطي سليم.
ومع أن المشروع المذكور لا يمكن أن يصل إلى الحد الذي يتمنّاه هؤلاء، إلا أنه في واقع الحال ربما يُفضي فعلاً، إذا ما قدّر له أن يخرج إلى النور، إلى تحول في المشهد السياسي العراقي إذ يساهم في إقصاء المليشيات المرتبطة بإيران عن مؤسّسات الدولة، وقد يساعد أيضاً على إعادة تشكيل موازين القوى في الداخل، ويعزز موقع التيارات التي تعارض نفوذ إيران، كما قد يعيد ترتيب علاقات القوة والقدرة في المنطقة، وعلى مواجهة قوى تعمل على الهيمنة تحت غطاء مشاريع طائفية وعِرقية تذكي نار الحروب والمنازعات المسلحة، خصوصاً أن إطلاقه يجيء في ظل "الدخول" الأميركي المستجدّ إلى المنطقة، والتحوّلات العميقة التي نشأت بعد عملية طوفان الأقصى، وانكفاء "محور المقاومة". وقد يقود "تمرّد" الطبقة العراقية الحاكمة على تنفيذ ما يطلبه الأميركيون إلى الخضوع لعقوبات اقتصادية، وتجميد أصول الدولة المالية، وتقييد العمليات المصرفية بما يؤثّر على تدفق حركة الاستثمارات، وتنشأ عن هذا كله حالة تضع الحكومة في زاوية حادّة، وتفقدها القدرة على إدارة الأمور العامة، وبالتالي العودة إلى نقطة الصفر.
لا بد من جهد عراقي شعبي تديره حركة سياسية فاعلة تعمل على استنهاض الوعي باتجاه الأهداف الوطنية الكبرى، والتحضير لعملية انتقالية منظّمة
تبدو كل هذه "السيناريوهات" محتملة. وفي المقابل، تظل عملية تغيير النظام الحالي أكبر من ذلك، وتحتاج أبعد من الخطوة الأميركية، إذ لا بد من جهد عراقي شعبي تديره حركة سياسية فاعلة تعمل على استنهاض الوعي باتجاه الأهداف الوطنية الكبرى، والتحضير لعملية انتقالية منظّمة، وهذا الشرط غير متوفر في الوقت الحاضر، وأقرب إلى المستحيل منه إلى الممكن، خصوصاً إذا عرفنا أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تجنّد نفسها لتكون بديلا للعراقيين في تحقيق تغيير كما فعلت في إسقاط النظام السابق، ولا تفكر في إسقاط "العملية السياسية" الماثلة التي أسّستها، وإنما تريد فقط إعادة إنتاجها بشكلٍ يبقي على التركيبة السياسية الحاكمة مع إضعاف الهيمنة الإيرانية على القرار العراقي، وكسر حلقات وكلاء طهران، وذلك كله في إطار الحفاظ على مصالحها، والتماهي مع مصلحة إسرائيل في أن يبقى العراق عنصراً ضعيفاً في المعادلة الإقليمية، هذا إضافة إلى أن العراق نفسه، وبتركيبته السياسية الحالية، بدأ يتفاعل مع المحيط الإقليمي، وكذا مع المجتمع الدولي على نحوٍ يجعله مقبولاً، فضلاً عن سعيه إلى الرجوع إلى "عروبته" التي أخرجته منها إيران زمناً.
ومع ذلك، ليس إنهاء الهيمنة الإيرانية على العراق بالأمر الهين، فقد جاءت تلك الهيمنة حصيلة مشروع طائفي عرقي تنامى وتجذّر، ليس عبر العامل المذهبي فقط، رغم أهميته، وإنما أيضاً بوجود زمرةٍ تماهت مع مطامع إيران، وقايضت ذلك بإطلاق يدها في المال العام، وبتحكّمها في إدارة الدولة، وقد عملت على إنشاء "دولة عميقة" تضم مليشيات ومؤسّسات مذهبية تتطابق مع أجندة "ولاية الفقيه"، ونجم عن ذلك وضع مسدود ليس من السهولة اختراقه، خصوصاً إذا ما لاحظنا تخلي قطاعات عراقية واسعة عن الفعل السياسي المنظم لسبب أو آخر.
وفي ظلّ هذه التداعيات كلها، تبرز أمامنا حقيقة صارخة: إن العراقيين يحتاجون إلى مزيد من الفعل، ومزيد من الزمن كي يعيدوا بلدهم إلى المكانة التي كان عليها في السابق.
