هل يعود حكم المماليك؟

2 weeks ago 6
ARTICLE AD BOX

منذ منتصف شهر إبريل/ نيسان الماضي وحتى هذا اليوم سافرت مرتين إلى أوروبا. في المرة الأولى وصلت إلى مدينة جنيف السويسرية لحضور مؤتمر عن الأمن والسلام وبقيت فيها أربعة أيام. وفي المرة الثانية وصلت إلى مدينة فيينا عاصمة النمسا وبقيت فيها مدة تقارب الأسبوع. كانت الرحلة الأخيرة أكثر راحة وأقل ضغطاً من رحلة جنيف، ما أتاح لي الفرصة لأتحدث مع بعض النمساويين الذين يبدون قلة في الأسواق والأماكن السياحية، بينما تعج الشوارع بآلاف السياح من أوروبا والمشرق العربي ودول الخليج ومن الصين واليابان وغيرها.

في حديثي مع أهل البلاد وجدت أنهم في معظمهم يميلون إلى الأحزاب اليمينية الوطنية، وأنهم يرون كثيراً من الأجانب يملؤون شوارعهم ويشتغلون في مطاعمهم ويملكونها، وفي فنادقهم يديرونها، وفي متاجرهم يشترون ويبيعون. وكذلك ترى أن كثيراً من أبنيتهم القديمة يشتريها الأغنياء من دول أخرى، ويُعيدون ترميم تلك الأبنية وبناءها. ومنهم من يشتري الفنادق، ويعمل في المستشفيات طبيباً أو ممرضاً متخصصاً أو فنياً طبياً في مجالات التصوير بالأشعة، والتخدير، والآت التنفس الاصطناعي وغيرها من الخدمات. وهذه أمور تسبب لأهل البلد الأصليين الضيق والبرم، لقد صارت بناهم التحتية والخدمات المتطورة والجواذب التاريخية متعة ووسائل راحة وثقافة للزوار الأجانب أو للمستثمرين منهم أو حتى العمال.

ترى التغير بأم عينيك في الديموغرافيا التي تنعكس على اختلاف الأجناس والألوان، وفي الثقافة كما تعكسها مختلف اللغات التي تسمعها وأنت تسير في الشوارع. والأوروبيون يرحبون بالسياحِ زبائنَ، ويحتاجون الشباب عُمّالاً، والطلاب لملء الجامعات، لكنهم يكرهون حقيقة أنهم مضطرون لذلك. ومن هنا تبدأ في ملاحظة الازدواجية بين أهل البلد والأوروبيين القريبين منهم من ناحية، وباقي الناس من الأجناس والأوطان الأخرى من ناحية ثانية، وقلّما يتحدثون مع بعضهم البعض إلّا إذا جمعتهم فرصة للعمل أو الاستثمار أو أي شيء مشابه.

زار النمسا، حسب إحصاءات العام 2023، نحو 31 مليون سائح أجنبي، بينما لا يزيد سكانها عن 9.1 ملايين نسمة حسب إحصاءات 2024. وهذا رقم كبير قياساً إلى عدد السكان

وقد جلست إلى عدد من المواطنين في سويسرا والنمسا وكل من هذين البلدين يعتبر بلداً غنياً ومرفهاً، ولديه إمكانات كبيرة للحصول على مداخيل سنوية من تصدير السلع والخدمات، وقد لاحظنا مثلاً أن السويسريين يشتكون من كثرة القادمين للعمل من أفريقيا، خاصة في مدينة جنيف، أما في النمسا التي هي إحدى دول الاتحاد الأوروبي فإن أهلها يشتكون أنّ أوروبا تسرعت في توسيع الاتحاد الأوروبي لأن بعض الدول الأوروبية الشرقية لا تزال تشكل عبئاً على باقي أوروبا.

زار النمسا، حسب إحصاءات العام 2023، نحو 31 مليون سائح أجنبي، بينما لا يزيد سكانها عن 9.1 ملايين نسمة حسب إحصاءات 2024. وهذا رقم كبير قياساً إلى عدد السكان، إذ يبلغ عدد السياح أكثر من ثلاثة أضعاف عدد السكان. أما في إسبانيا على سبيل المثال فقد بلغ عدد السياح القادمين إليها 94 مليون نسمة، أو ما يساوي ضعف عدد السكان، علماً أن إسبانيا هي ثاني أكثر دولة جاذبة للسياح في العالم، لكن عدداً كبيراً من السياح يذهبون إلى مدينة برشلونة التي يشتكي أهلها شكوى مريرة من عدد الأجانب المقيمين والعاملين والزائرين.

لا تكمن المعضلة في أوروبا التي بدأت بالانفصال التدريجي عن حليفتها الأساسية وهي الولايات المتحدة، في السياحة، بل تكمن في الهجرة؛ فالأوروبيون خاصة الأغنياء منهم توقفوا عن الإنجاب، وعدد كبير من هذه الدول قد دخل مرحلة النمو السكاني السالب. ومَن منّا ينسى الذي حصل مع الصين في هذا المجال، ففي العام 1981 عقدت الصين مؤتمراً دولياً عن السكان شاركتُ أنا فيه آنذاك بورقة عن العلاقة بين السكان والتوظيف، وقد اتخذ الصينيون أيامها قراراً بحصر المواليد على طفل واحد لكل أسرة، لكنّهم اكتشفوا بعد سنوات أن هذه السياسة قد أخلّت بالتوزيع العمري الأمثل للسكان. فعادت الصين عن ذلك القرار لأنه أحدث فراغاً في الشباب المطلوبين لخدمة المجتمع وسوق العمل، والاعتناء بكبار السنّ المتزايدين عدداً وغيرها من الأمور.

أما أوروبا فقد فات الوقت على كثير من بلدانها لكي تعيد إقناع السكان بالزواج بدلاً من اختيار شريك، أو الرجوع عن المثلية وعمّا يسمى الآن بتأنيث المجتمع وتذكير فتياته، ما يجعل هذه المجتمعات في ظل التعقيدات القانونية عازفة عن الإنجاب وغير مستعدة لتحمّل مشاقّه ورعاية الأطفال، وإن تجرّأوا على فعل ذلك، فإن عدد الأطفال لا يغطي عدد حالات الاستبدال المطلوبة للتعويض عن الموتى. ونشر القصاص الفرنسي ميشيل هولبيك (Michel Houllebecq) قصة "Le Soumission" أو "الخضوع" عام 2015، التي تتحدث أن العام 2022 سيشهد انتصار حزب ينادي بتبني الإسلام من أجل إعادة الذكورة إلى المجتمع الفرنسي لكي يبدأ في الازدياد، وإلّا فإن المهاجرين سوف يستولون على الحكم في فرنسا.

الهجرة إلى أوروبا خاصة من الدول الإسلامية لها من يعاديها ويتقصد التخويف منها عن طريق تصويرها بأنها تهديد لأسس الحياة التي اعتادها الأوروبيون

وقد أخاف ذلك الكتاب الفرنسيين جداً، خاصة أنه صادف يوم نشره أن قُتِلت مجموعة من صحافيي "تشارلي إيبدو"(Charlie Hebdo) على يد متحمسين إسلاميين لقيام الصحيفة الفرنسية بإعادة نشر صور كاريكاتيرية دنماركية للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك تحوّل الكتاب إلى مصدر تخويف وفزع من الإسلام والمسلمين أو ما يسمى بظاهرة "الإسلاموفوبيا"، بدلاً أن ينظر إليه نظرة إيجابية.

والهجرة إلى أوروبا خاصة من الدول الإسلامية لها من يعاديها ويتقصد التخويف منها عن طريق تصويرها بأنها تهديد لأسس الحياة التي اعتادها الأوروبيون، وهذا يذكرنا بعدد من الأفلام التي لاقت رواجاً، ولعلّ آخرها كان ذلك الفيلم الكوري "طفيلي" أو "Parasite"، إذ تقوم عائلة Kim التي يعمل ابنها في بيوت أحد الأغنياء ويقوم بالسيطرة على أهل البيت عن طريق استخدام أقاربه للقيام بكل الأعمال، وقد سبق لنفس الفكرة أن أُخرجت فيلماً سينمائياً بريطانياً اسمه "الخادم"، المأخوذ عن قصة "روبن موم" التي طورها هارلود بينتر إلى فيلم متميز عام 1963. والفيلم يحكي كيف أن أحد الأغنياء الإنكليز قد استأجر خادماً له والذي أحضر أخته لمساعدته، فأغوت صاحب البيت وصار تحت رحمة أخيها الذي لم يكن أخاها، بل صاحبها. والفيلم يربط بين تقاعس الأغنياء وتسليمهم مقاليد أمورهم للخدم، وهو مثل صعود المماليك في تاريخنا العربي والإسلامي إلى سدة الحكم، والآن نرى نفس القصة تتكرر في أوروبا مع المهاجرين.

إذاً؛ نحن في الوطن العربي إذا لم ننتبه خاصّة في الدول الأكثر حظاً ودخلاً، فإن قصةً مشابهةً قد تتكرّر، وبحسب التقديرات فإنه هناك حوالى تسعة إلى عشرة ملايين عامل من الهند يعملون في دول الخليج، وفي بعض دول الخليج الصغيرة لا يتجاوز عدد السكان من المواطنين 15% من مجموع السكان المقيمين على أرض تلك الدولة. وهؤلاء العمال يقومون بكل الأعمال المنزلية وفي الحدائق والمطاعم والبنوك والشركات والصناعات وحتى في إدارة شؤون الدولة أحياناً. صحيح أنّ دول الخليج واعية لهذا الواقع، وما تزال تمتلك ناصية الحكم وتسيطر على الأمور، لكن ديناميات الحياة واستمرارها لا تسمح ببقاء الحال على حاله، ولذا؛ يجب أن ننتبه وأن نعي المفهوم الذي يقول بأن التقيَّ من اتَّعظ بغيره، والشقيّ من اتَّعظ بنفسه.

ومن أخطر ما يحصل بسبب الهجرة الشرعية وغير الشرعية، هو أن تبدأ سلوكيات أصحاب البلد في التغيّر والاقتراب التدريجي من مفهوم العبودية، ولقد رأيت في تجربتي الأوروبية الأخيرة كيف قلَّت نسبة العاملين في قطاع الخدمات، إذ يحمل كل عامل مسؤولية مضاعفة كان يشاركه فيها سابقاً عامل آخر أو اثنان على الأقل، أما اليوم فالمطلوب من كل عامل أن يكدح ويشقى ليفي بمتطلبات عمل يفوق قدراته بدون أي تحسُّن في الأجور أو مستوى المعيشة.

قضية الهجرة والعبودية وتفكّك المجتمعات سوف تتصدر مستقبلاً تفكير السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين قبل أن تستفحل.

Read Entire Article