ARTICLE AD BOX
سيذكر السوريون يومَي 12 و13 مايو/ أيار (2025)، يومين فارقين في مسارات حياتهم، لما ينطويان عليه من قطع مع مرحلة تاريخية، كانت أشدّ المراحل سوءاً في تاريخ سورية الحديث، إذ عانى السوريون أبشع أنواع الحرمان والعَوز، ووصل بلدهم إلى عتبة التفكّك والاندثار. ما حصل في هذه الأيّام يشبه ظهور البجعة السوداء، في وقتٍ كانت السياقات تتّجه إلى صناعة واقع مشؤوم بدأ بعضهم يستسلم لرياحه التي هبّت من أركان عدّة. ثلاثة أحداث، ستغير الواقع السوري، وستؤسّس مرحلةً جديدةً مختلفة، تسابقت إلى إعلان نفسها في اليومَين المذكورَين، إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عزمه رفع العقوبات عن سورية، وتصريح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر أن تلّ أبيب تريد علاقات جيّدة مع الحكومة السورية الجديدة في دمشق، وترغب في الاستقرار رغم مخاوفها الأمنية، وإعلان حلّ حزب العمّال الكردستاني، وانعكاساته المتوقّعة على الوضع في سورية. هذا يعني أن البيئة الاستراتيجية في سورية تحوّلت بشكل كبير، وستنعكس أساساً في تجاوز مرحلة التوتّر والشكّ في إمكانية استمرار سورية دولةً واحدةً، وضرباً للمشاريع التي ازدهرت في سماء سورية، وراحت تضع السيناريوهات السوداء لمستقبل البلاد، بل وصلت حدّ وضع خرائط التقسيم، وحدود كلّ مكوّن، وشكل العلاقات المستقبلية بين أطراف سورية متصارعة.
لكنّ هذه التطوّرات سلّطت الضوء على حقيقة (لم تكن خافية على مراقبين كثيرين) أن أميركا هي المايسترو القادر بالفعل على إحداث الانقلاب في شؤون المنطقة كلّها متى أرادت، فما إن قرّرت واشنطن إعادة التموضع في الملفّ السوري، حتى تراجعت المشاريع والأفكار والخطط، وكأنّه جرى قطع الأكسجين عنها، وماتت بالسكتة من دون ضجيج ولا عزاء.
عانى السوريون أبشع أنواع الحرمان والعَوز، ووصل بلدهم إلى عتبة التفكّك والاندثار
لكن أيضاً، لا بدّ من الإشارة إلى الدور العربي المهم في صناعة هذا التغيير، إذ ليس سرّاً أن سورية لا تعني لترامب أيّ شيء لا اليوم ولا بعده، وكان من المحتمل بقاء سورية رازحةً تحت نير العقوبات سنوات طويلة مقبلة، سواء بسبب بيروقراطية الكونغرس وبطئه في اتخاذ القرارات، أو لأن العقوبات المتراكمة على سورية كثيرة وعلى عدّة مستويات، وتحتاج تالياً إلى وقت طويل لتفكيكها. ومن الواضح، أن دول الخليج العربي، قد وضعت رفع العقوبات عن سورية ضمن أكثر أولوياتها أهميةً في محادثاتها مع إدارة ترامب، تقديراً منها لأهمية استقرار سورية، وانعكاس هذا الأمر على الأمن والاستقرار في المنطقة، ولعلّ الأكثر أهميةً في ذلك، تغيير موازين القوى داخل بنية السلطة السورية، بما يؤدّي إلى تقوية التيّار المعتدل داخلها في مواجهة التيّار المتشدّد، إذ ينطوي التغيير الحاصل على فرص مهمّة لمستقبل البلاد، ستجعل كثيراً من السوريين يرون أفقاً أفضل يلوح في مقبل الأيّام، بما يدفع النُّخب على كلّ المستويات إلى الإمساك بهذه اللحظة وتطويرها بوصفها فرصةً لرأب صدوع سورية ولملمة جراحها.
ترتّب هذه التغيرات التزاما مهمّاً على السلطة الحاكمة في دمشق، لترتقي إلى مستوى الحدث وتستطيع استثماره لمصلحة البلاد، لكن عليها، أولاً، ألا تقيّم هذا التغيير (الاعترافين الدولي والإقليمي)، من منطلق عدم وجود بدائل للسلطة الحالية في سورية، فهذا ليس سوى نهج سياسي عقلاني وجدت الأطراف نفسها مجبرة على اتباعه، لأن البديل الآخر هو الفوضى التي ستنعكس آثارها على الجميع من دون استثناء، سيكون ذلك خطأً قاتلاً لو أن الإدارة السورية اقتنعت بهذه النظرية التي (بالمناسبة) قد يُروّجها الجناح المُتشدّد في السلطة، وربّما ينظر إلى هذه التغيّرات بوصفها فخاخاً يُراد بها الإيقاع بالسلطة وحرفها عن مسارها الثوري. على العكس تماماً، يتوجّب على السلطة السورية أن تعكس اهتمامها بالمبادرة العربية والأميركية تجاهها، بتغيير نمط سياساتها الداخلية، التي أثارت كثيراً من الانتقادات، ولا سيّما تجاه تعاملها مع الأقلّيات، والحوار الوطني وصياغة الإعلان الدستوري، والانتباه إلى أن كلّ شيء قد ينقلب إلى ضدّه وتتحوّل سورية دولةًَ فاشلةً ما لم تستطع السلطة ضبط الوضع الأمني ووقف الإنتهاكات المتنقّلة والمنفلتة، والخروج من منطق الثأر والانتقام، إن أرادوا لسورية النهوض والخروج من المأزق الحالي.
ينطوي التغيير الحاصل على فرص مهمّة لمستقبل البلاد، ستجعل كثيراً من السوريين يرون أفقاً أفضل
المطلوب والعاجل أن ترتقي الذهنية السورية، سلطةً ومعارضةً وبمختلف مكوّنات الفسيفساء السورية، إلى التقاط هذا التغيير المهم للبناء عليه واستثماره إلى أقصى حدّ، بل التعامل معه بوصفه فرصةً لن تتكرّر، ويمكن أن تضيع، وتدخل بعدها سورية زواريب الإهمال والنسيان، فلا تستطيع لا دول عربية ولا إقليمية إخراجها من وضع سبق أن وقعت فيه دول عديدة ضاعت في غياهب النسيان، وظلّت مقيمةً في متنه إلى أجل غير معلوم. بهذه المبادرة، العربية الأميركية، يمكن القول إن هذه الأطراف قد عملت ما هو مطلوب منها، فتحت أبواب الأمل أمام السوريين، وهي على استعداد لتقديم الأدوات والوسائل المساعدة لرفع سورية من تحت الأنقاض، يبقى أن السوريين بأيديهم يمكنهم وضع القاطرة في السكّة لمغادرة أسوأ مرحلة في حياتهم، أو إخراج القاطرة من مسارها لتكمل دوس ما رحمته الأقدار وتحطيمه. إنها مسؤولية ضخمة لمن يدرك.
