ARTICLE AD BOX
حتى أمس الجمعة كان هناك الكثير من التكهنات في نيويورك حول مصير المؤتمر الدولي من أجل تسوية القضية الفلسطينية سلمياً وتنفيذ حل الدولتين، برئاسة السعودية وفرنسا، والذي كان من المقرر أن يُعقد في مقر الأمم المتحدة في نيويورك بين 17 و20 حزيران/ يونيو الحالي، على مستوى رفيع يتضمن قادة دول ووزراء خارجية، لا سيما بعد الحديث عن ضغوط أميركية، خصوصاً بعد ما نشرته وكالة رويترز قبل أيام من أن إدارة الرئيس دونالد ترامب حثت "الحكومات على عدم المشاركة" في المؤتمر الدولي لتسوية القضية الفلسطينية، محذرةً من أن الدول التي تقدم على "إجراءات مناهضة لإسرائيل" عقب المؤتمر ستعتبر مخالفة لمصالح السياسة الخارجية الأميركية، وقد تواجه عواقب دبلوماسية من الولايات المتحدة. وجاء في البرقية أنه "تعارض الولايات المتحدة أي خطوات من شأنها الاعتراف من جانب واحد بدولة فلسطينية مفترضة، مما سيضيف عراقيل قانونية وسياسية كبيرة أمام الحل النهائي للصراع ويضغط على إسرائيل أثناء حرب، وبالتالي يدعم أعداءها".
لكن الوكالة نفسها ذكرت أمس، نقلاً عن مصدرين دبلوماسيين، أنه جرى تأجيل المؤتمر الدولي لتسوية القضية الفلسطينية، قبل أن يعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مساء رسيماً تأجيله، لكنه أرجع الخطوة "لأسباب لوجستية إذ لم يتمكن أعضاء السلطة الفلسطينية من السفر إلى نيويورك، وسيتم تحديد موعد جديد له في أقرب وقت ممكن".
فرانشيسكا ألبانيزي: إذا نظرنا إلى الواقع فإن كل التوقعات حول المؤتمر تبخرت قبل أن يعقد
وحتى ما قبل الإعلان عن التأجيل كانت التحضيرات في نيويورك لتسوية القضية الفلسطينية تجري على قدم وساق، وسط سقف توقعات منخفض، عبّر عنه دبلوماسيون مع شعور البعض بالإحباط. وبعد أن كانت هناك تلميحات فرنسية وبريطانية عن نية حكومتي البلدين الاعتراف بدولة فلسطينية، تم تخفيف ذلك، ثم عادت التصريحات مجدداً لتلوح بوجود تلك النية. أما البعثة الفرنسية في نيويورك، فكانت حتى أمس تفضل عدم التعليق رسمياً على أي مما يدور في الإعلام حول الموضوع مبقية الكرة في ملعب الإليزيه.
خلفية عقد المؤتمر الدولي لتسوية القضية الفلسطينية
وأعلن في 27 سبتمبر/أيلول الماضي، خلال اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك، عن إطلاق "التحالف العالمي لتنفيذ حل الدولتين"، بمبادرة من السعودية والنرويج والاتحاد الأوروبي. وقد عقد اجتماعه الأول في الرياض نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعقب ذلك عدد من الخطوات، أبرزها تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثالث من ديسمبر/ كانون الأول 2024 قراراً تحت عنوان "تسوية قضية فلسطين بالوسائل السلمية"، وبروز فرنسا إلى جانب السعودية رئيستين للمؤتمر. وجاء قرار الجمعية العامة في تسع صفحات، وأشار إلى قرارات سابقة للأمم المتحدة. ومن أبرز ما نص عليه تأكيده على ضرورة بذل جهود جماعية من أجل إطلاق مفاوضات ذات مصداقية بشأن جميع مسائل الوضع النهائي في عملية السلام في الشرق الأوسط، استناداً إلى المرجعيات الراسخة وإلى معايير واضحة ضمن الإطار الزمني الذي حددته المجموعة الرباعية في بيانها الصادر في 21 سبتمبر 2010. وبالإضافة إلى دعوته إسرائيل للانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بما فيها شرقي القدس وإنهاء وجودها غير القانوني فيها، فقد طالب بوقف جميع العمليات الاستيطانية. ورفضت الجمعية العامة في قرارها أي محاولات تغيير ديمغرافي أو إقليمي في قطاع غزة، بما فيها أي إجراءات تقلص من مساحته، مؤكدة أن القطاع جزء من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 67 ومن الدولة الفلسطينية. كما دعا للتوصل إلى حل شامل "لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين طبقاً لقرارها 194 (د-3) الصادر في 11 ديسمبر/كانون الأول 1948". وتضمن القرار الكثير من النقاط الأخرى، لكن أهمها هو المرفق الذي ينص على أهداف المؤتمر الدولي لتسوية القضية الفلسطينية والطرق لعقده.
والهدف من عقد المؤتمر الدولي لتسوية القضية الفلسطينية بحسب القرار هو "النهوض بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بقضية فلسطين، وحل الدولتين، بغية تحقيق سلام عادل ودائم وشامل في الشرق الأوسط". كما نص على أن المؤتمر "يعتمد وثيقة ختامية عملية المنحى بعنوان "تسوية القضية الفلسطينية بالوسائل السلمية وتنفيذ حل الدولتين"، للتعجيل برسم مسار لا رجعة فيه باتجاه التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين". وسيتضمن المؤتمر جلسات عامة تعقد في الجمعية العامة (افتتاحية وختامية)، واجتماعات دوائر مستديرة (لجان لنقاش ملفات مختلفة). ومن المتوقع تبني بيان أو وثيقة ختامية. كما يطلب من الرئيسين المشاركين (السعودية وفرنسا) تيسير إجراءات ومشاورات حكومية دولية مفتوحة وشفافة للتحضير للمؤتمر الدولي لتسوية القضية الفلسطينية تشمل مفاوضات حول الصيغة النهائية للوثيقة الختامية وتعيين الرؤساء المشاركين لاجتماعات الطاولة المستديرة.
هل تبالغ السلطة الفلسطينية في تفاؤلها؟
جزء من هذه الخطوات آنفة الذكر بدأ بالفعل العمل بها، وهو ما أكده السفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة، رياض منصور، خلال مؤتمر صحافي، عقده قبل أيام في مقر المنظمة في نيويورك، وأكد فيه أن هناك ورقة تفاهمات جرى الاتفاق عليها حول أهداف المؤتمر الدولي لتسوية القضية الفلسطينية. كما أشار إلى أن الطاولات المستديرة الثماني التي أُنشئت في سياق المؤتمر حول القضية الفلسطينية تتعامل مع ما يسعى إلى تحقيقه في مجالات مختلفة ومع الخطوات الفعلية. ولعل مربط الفرس في تصريح الدبلوماسي الفلسطيني قوله: "نحن مصممون على ألا يكون هذا المؤتمر كأي مؤتمر آخر. سيكون نقطة تحول في عملية إنهاء هذا الاحتلال غير الشرعي، كما ورد في الرأي الاستشاري التاريخي لمحكمة العدل الدولية". وعن توقعات السلطة الفلسطينية قال: "نتوقع من الدول الأعضاء الإعلان، قبل المؤتمر وأثناءه، عن عدد من الخطوات العملية، بما فيها الاعتراف بدولة فلسطين من الدول التي لم تقم بذلك، وكذلك أن تلتزم الدول ذات الإمكانات المالية بتخصيص مبالغ كبيرة لتعزيز مؤسسات دولة فلسطين في السنوات القادمة بشكل ملموس، من خلال دعم برامج مالية تُعزز قوة هذه الدولة الفلسطينية في مواجهة هذا الاحتلال الغاشم". كما تحدث عن توقعات من الدول باتخاذ خطوات "لوقف إرسال الأسلحة إلى إسرائيل لقتل الأطفال الفلسطينيين، وأن يتخذوا كذلك خطوات مشابهة لما قامت به تشيلي قبل أيام، بقطع أي علاقة مع المستوطنات والمستوطنين، وأن يتخذوا أيضاً تدابير لتقصير أمد هذا الاحتلال غير الشرعي وإنهائه، والسماح بأن يصبح حل الدولتين واقعاً".
ربط الاعتراف بالتطبيع
تساؤلات كثيرة طُرحت في وقت مبكر عندما بدأت التحضيرات للمؤتمر حول القضية الفلسطينية حيث تناقلت الأخبار في أروقة الأمم المتحدة بنيويورك عن ربط دول غربية عملية الاعتراف بالتطبيع، أي تطبيع دولة عربية مهمة مع إسرائيل. وهنا لا بد من التذكير أن الاعتراف بدولة فلسطينية لن يكون أكثر من حبر على ورق، حيث هناك حتى الآن أكثر من 150 دولة اعترفت بالدولة الفلسطينية، إن لم تتبعه خطوات واضحة ومتينة لإنهاء الاحتلال وهو ما يفترض أن يخرج به المؤتمر الدولي لتسوية القضية الفلسطينية. وعلق منصور، على ذلك في سياق رده على سؤال صحافي حول الموضوع، قائلاً: "لقد أثيرت مثل هذه القضايا في نقاشات التحضيرات للمؤتمر الدولي، وأعرف أن هناك دولًا عربية وازنة وقائدة قد أوضحت انفصال الموضوعين. إن الاعتراف بدولة فلسطين قرار سيادي ووطني لكل دولة بحد ذاتها، أما التطبيع مع إسرائيل، فهو مختلف. وحدد العرب سياقه منذ قمة بيروت (2002)، عندما اعتمدوا مبادرة السلام العربية، والتي لا يزال العرب والمسلمون ملتفين حولها". ومن غير الواضح ما إذا كان الموضوع بالفعل قد أزيل عن الأجندة خلف الأبواب المغلقة، وما هي المساومات التي يتم الاتفاق عليها.
غزة الغائبة
ماكس رودنبيك: من المشجع أن نلمس إدراكاً متزايداً بضرورة إيقاف الحرب، ولكن هناك أيضاً حاجة إلى أفق سياسي
في تصريحات لـ"العربي الجديد" في نيويورك، رأت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيزي أن عقد مؤتمر يناقش حل الدولتين يمكن رؤيته كـ"لفتة سياسية لإظهار استمرار الالتزام بالقضية الفلسطينية دون تقديم حلول (على أرض الواقع). وفي الإيطالية لدينا مقولة معناها أن الأكاذيب قصيرة الساقين (حبل الكذب قصير). وإذا نظرنا إلى الواقع فإن كل التوقعات حول المؤتمر تبخرت قبل أن يعقد... فلماذا مستمرون في تضييع الوقت؟". وأضافت: "سمعنا تصريحات تعبر عن التزام قوي من المملكة المتحدة وفرنسا تجاه الدولة الفلسطينية (الاعتراف بها) وتصريحات قوية من الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) في هذا الصدد ثم تراجع عنها، ثم سمعنا أنه غير رأيه. وتوالت الأخبار عن أنهما يعتزمان تأجيل الاعتراف" بالدولة الفلسطينية.
وأضافت الحقوقية الأممية، في سياق حديثها عن القادة الفرنسيين والبريطانيين: "من يظنون أنهم يخدعون؟ العالم يراقب، وناخبوهم كذلك هذه السياسات لا تقدم أي شيء لحماية الفلسطينيين وحتى الإسرائيليين. فلسطين تضعنا أمام مرآة، والسؤال الذي يطرح بالنسبة لي الآن هو هل حل الدولتين هو الحل الآن (الذي يجب أن نناقشه)؟" وشرحت ألبانيزي: "بالنسبة لي، إنهاء الإبادة الجماعية، وإنهاء الاحتلال، وإنهاء نظام الفصل العنصري، هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة والنزيهة والمحترمة لمناقشة القضية الفلسطينية وأي شيء آخر هو بمثابة رماية سهام في الهواء".
وخلال إحاطة صحافية في نيويورك عبّر مدير برنامج إسرائيل وفلسطين في منظمة "مجموعة الأزمات الدولية"، ماكس رودنبيك، عن أمله أن يتمكن المؤتمر، على الرغم من كل الانتقادات الموجهة له، من بعث رسالة واضحة حول إنهاء الحرب. وقال إن المؤتمر الدولي لتسوية القضية الفلسطينيةيعقد في وقت "يشهد فيه الرأي العام العالمي، وهو ما ينعكس في الأمم المتحدة، تحولاً واعترافاً واسع النطاق بضرورة إيقاف هذه الحرب التي هي في مرحلتها النهائية ولم تعد تحقق شيئاً لأحد ولا حتى لإسرائيل". وأضاف: "من المشجع أن نلمس إدراكاً متزايداً بضرورة إيقاف الحرب، ولكن هناك أيضاً حاجة إلى أفق سياسي. وهذه هي العبارة التي استخدمها ماكرون عندما دعا إلى هذا المؤتمر مع السعوديين، وهذا مهم".
ولفت رودنبيك الانتباه في الوقت ذاته إلى الانتقادات الموجهة للمؤتمر من أطراف مختلفة، كالولايات المتحدة وإسرائيل، التي تعارضه، وترى أن عقده والاعتراف بالدولة الفلسطينية بمثابة "مكافأة لحماس". وتوقف كذلك عند الانتقادات شديدة اللهجة للمؤتمر من أطراف تدعم القضية الفلسطينية وترى أنه ربما "يأتي متأخراً وقد يكون بلا جدوى. وسيكون الأمر بمثابة استعراض تتظاهر الدول بالحزن والأسى فيه، لكنها لا تفعل سوى القليل". ولفت إلى انتقادات إضافية مفادها بأن "حل الدولتين على أرض الواقع بالكاد قابل للتطبيق ولم يعد واقعياً، والبعض الآخر يرى أن التركيز على الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس أكثر من كلام لا يترجم في الواقع لأفعال"، وليس أكثر من محاولة لذر الرماد في العيون لإشغال الناس عما يحدث على أرض الواقع.
وفي الوقت الذي شدد فيه رودنبيك على شرعية الكثير من هذه الانتقادات، فقد أكد في الوقت نفسه على ضرورة التركيز على ما بعد الأزمة والحرب وعلى الحلول، شارحاً أن مؤتمرات من هذا القبيل "ستذكر إسرائيل بأنها معزولة في العالم، وأنها والحكومة الأميركية ضد الجميع تقريباً، أعني أن بقية دول العالم تريد أن يتوقف كل هذا فوراً، وأن هناك غضبا أخلاقيا عالميا إزاء ما يحدث في غزة".
معايير أوروبية مزدوجة وهيمنة أميركية
من الواضح أن الجانب الأميركي، حتى قبل دخول ترامب على الخط، أصبح جزءا من حرب الإبادة على غزة وليس داعماً للسياسات الإسرائيلية فحسب، حيث تقدم الولايات المتحدة الدعم العسكري والسياسي والمادي والدبلوماسي لإسرائيل ولولاه لما تمكنت تل أبيب من الاستمرار، بل إنها تقمع مواطنيها المناهضين للحرب لدعم حرب حكومة أجنبية. وفي الوقت الذي أظهرت فيه دول أوروبية، كإسبانيا أو أيرلندا والنرويج مثلاً، رغبة باتخاذ خطوات لوقف الحرب والتخفيف من ازدواجية المعايير عن طريق الاعتراف بالدولة الفلسطينية ووقف بيع الأسلحة لإسرائيل، وإن كانت غير كافية، استمرت دول رئيسية كألمانيا وفرنسا وبريطانيا في قمع الحريات والأصوات المناهضة للإبادة وحماية القادة الإسرائيليين من المحاكمات الدولية، بما فيها أوامر المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. وعلى الرغم من وقف بريطانيا لتصدير جزء من الأسلحة لإسرائيل (عشرة بالمائة فقط من إجمالي التراخيص) إلا أنها مستمرة في تزويد إسرائيل بمعلومات استخباراتية وأسلحة.
ولكن الأهم من كل هذا هو أن الدول الأوروبية، والاتحاد الأوروبي على وجه التحديد، لديها أكبر علاقات تجارية مع إسرائيل، ولا يبدو أن هذه الدول تنوي لي ذراع إسرائيل عن طريق التجارة لوقف الحرب. وحتى لو تم الاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود 1967، كما تنص عليه قرارات الأمم المتحدة والقرارات ذات الصلة، فكيف ستطبق تلك الدول ذلك بالأفعال إذا كان لا يمكنها فرض حماية دبلوماسييها الذين استهدفهم الجيش الإسرائيلي قبل أسابيع في إحدى زياراتهم للضفة. وكيف ستُخرج قرابة مليون مستوطن من الضفة الغربية في وقت لا يمكنها أن تفرض على إسرائيل إدخال الأغذية والأدوية للقطاع، فما بالك وقف المجازر وتنفيذ حل الدولتين؟
