ARTICLE AD BOX
تفرض دولة الاحتلال ولايتها القضائية على السلطة الفلسطينية لتنهب أموال المقاصة المتراكمة وتمنحها لجواسيس هاربين يقيمون بمناطق سيطرتها، والجزء الأعظم منها تحصل عليه عائلات إسرائيلية بذريعة أن أفرادها ضحايا عمليات فدائية.
- لم يقدّم الرئيس السابق لهيئة شؤون الأسرى والمحررين في فلسطين قدورة فارس رداً مكتوباً إلى المحكمة المركزية الإسرائيلية في القدس، بعدما حددت له مهلة مقدرة بـ60 يوماً انتهت في الخامس من مايو/ أيار الماضي، للإدلاء بأقواله في دعوى مقامة ضده من 500 عائلة إسرائيلية فقدت واحداً أو أكثر من أفرادها خلال أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، مطالبة بتعويضات تصل قيمتها إلى 4.5 مليارات شيكل (1.2 مليار دولار)، ومختصمة إياه باعتباره كان مسؤولاً عن إدارة ملف صرف رواتب الأسرى والمحررين ومن بينهم مقاتلو كتائب القسام، كما يقول في إفادته لـ"العربي الجديد".
بدأت الأحداث بشخصين مجهولين لم يعرّفا عن نفسيهما، كانا يستقلان سيارة مدنية، وجاءا إلى منزل فارس في بلدة سلواد، شمال رام الله، ليسلمّا ابنه مهند أوراق الدعوى القضائية، التي تضمنت تفاصيل ادعاءات عائلات القتلى الإسرائيليين، بالإضافة إلى توضيح يفيد بأن عدم تقديمه رداً مكتوباً خلال الفترة المحددة يعني محاكمته غيابياً استناداً للمادة 130 من أنظمة الإجراءات المدنية لسنة 2018 التي تتيح للمدعي تقديم طلب لإصدار حكم في غياب الدفاع.
الدعوى المقدمة ضد الوزير السابق فارس تستند إلى المادة 2 من قانون تعويض "ضحايا الإرهاب الإسرائيلي" لسنة 2024، وتنص على أنه "إذا أدى عمل إرهابي إلى وفاة شخص، فإن ورثته يستحقون تعويضاً من منفذ العمل الإرهابي، أو من ممول الإرهاب، بمبلغ عشرة ملايين شيكل"، فيما تشير المادة المذكورة في البند الثاني منها إلى أن "تنفيذ قرار المحكمة بالتعويض يتم من خلال الأموال التي تُحوَّل من حكومة إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية، كما هو منصوص عليه في قانون تجميد أموال السلطة الفلسطينية التي دُفعت في سياق الإرهاب لسنة 2018"، ما يؤطر عملية الاستيلاء على أموال المقاصة التي من المفترض أن تحولها حكومة الاحتلال للسلطة، بعد جني وتجميع عائدات الجمارك وضريبة القيمة المضافة التي تحصلها عبر المعابر التي تسيطر عليها.
محاكم الاحتلال تستنزف خزينة السلطة
توظف النصوص القانونية المشار إليها آنفاً سياسياً في ظل عملية التنافس بين الأحزاب الإسرائيلية الساعية للتأكيد في أجندتها على فكرة ردع مقاومة الشعب الفلسطيني والتضييق عليها طلباً لأصوات الناخبين، بحسب دراسة أعدها الباحث القانوني في جامعة بار إيلان شاب فربر عام 2023 تحت عنوان "النضال القانوني ضد تمويل الإرهاب"، يشير فيها إلى أن أهم الأدوات القانونية للاستيلاء على أموال المقاصة هي المحاكم الإسرائيلية التي سبقت في أحكامها إقرار القوانين المشرعنة للأمر من خلال الكنيست، وهو ما يتفق معه الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" ياسر مناع، لكنه أشار في إفادته لـ"العربي الجديد"، إلى أن بعض التيارات الإسرائيلية، كالصهيونية الدينية التي يتزعمها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ترى أن إضعاف الفلسطينيين اقتصادياً وسياسياً يجب أن يكون ممنهجاً من خلال تشريعات سياسية ولا يمكن الاكتفاء بقرارات المحاكم واجتهادات القضاة، بل خلق أساس تشريعي تستند إليه المحاكم في قراراتها.
يحتجز الاحتلال 7.26 مليارات شيكل منذ عام 2019
لتوثيق هذا الاستنزاف، رصد معدّ التحقيق من خلال الموقع الإلكتروني لحكومة الاحتلال استيلائها على 742 مليون شيكل منذ بداية عام 2025 (206 ملايين دولار)، بناء على قرارات المحكمة المركزية في القدس وحدها، على اعتبار أن تلك المبالغ تعويضات لعائلات قتلى إسرائيليين. فيما بدأت المحكمة في فبراير/ شباط الماضي النظر في دعوى تعويض بقيمة 1.234 مليار شيكل (حوالي 340 مليون دولار)، تقدم بها 245 إسرائيلياً على أساس قانون "تعويض ضحايا الإرهاب" لسنة 2024.
احتجاز 7.26 مليارات شيكل
حتى قبل إقرار القوانين التي تشرعن الاستيلاء على أموال المقاصة، يؤكد منسق المؤتمر الشعبي الفلسطيني (تجمع من شخصيات مهنية ووطنية ومؤسسات مجتمع مدني)، عمر عساف، والباحث في الشأن الإسرائيلي مناع، أن المحاكم الإسرائيلية مارست الولاية القضائية على السلطة. على سبيل المثال قرار من المحكمة المركزية في القدس عام 2022 (قبل إقرار قانون تعويض ضحايا الإرهاب بعامين)، وجاء فيه أن "السلطة الفلسطينية ملزمة بدفع تعويضات لعائلات 34 إسرائيلياً قُتلوا في عمليات تفجيرية، بمبلغ قدره 130 مليون شيكل (36.1 مليون دولار)".
وتستنزف عملية الاستيلاء على أموال المقاصة القدرات المالية للسلطة، فبحسب بيانات نشرتها وزارة المالية في أكتوبر 2024 تشكل أموال المقاصة 65% من إجمالي الإيرادات العامة للسلطة الفلسطينية، ويحتجز الاحتلال منها 7.26 مليارات شيكل (2.04 مليار دولار)، منذ 2019، بمعدل شهري للاستيلاء على مبالغ بقيمة 257 مليون شيكل (72 مليون دولار)، خلال عام 2024. وكل هذا دفع السلطة إلى اعتماد تنفيذ موازنتها على أساس شهري نقدي، كما يؤكد البنك الدولي في تقرير صندوق النقد الدولي المقدم إلى لجنة الاتصال الخاصة في الثامن من سبتمبر/ أيلول 2023، مشيراً إلى دفع السلطة رواتب جزئية للموظفين والمتقاعدين جراء عدم القدرة على تغطية المساعدات النقدية للفئات الأكثر ضعفاً، وتآكل قدرة الحكومة على تقديم الخدمات الأساسية، خصوصاً في قطاعات الصحة والتعليم، ما يهدد استقرار النظام المالي الفلسطيني، بسبب تراكم المتأخرات الحكومية، وزيادة المخاطر على البنوك المحلية نتيجة انكشافها الكبير على السلطة.
منح أموال الفلسطينيين للجواسيس والإسرائيليين
اطلع معدّ التحقيق على ستة محاضر لجلسات في المحاكم الإسرائيلية قضت في نهايتها بإقرار استيلاء على أموال المقاصة لصالح عائلات قتلى إسرائيليين، من بينها جلسة استئناف في المحكمة العليا بتاريخ 23 أكتوبر 2019 على قرار محكمة تل أبيب المركزية (3361/09) ضد عضو اللجنة المركزية لحركة فتح الأسير مروان البرغوثي، الذي اتهمته بأن له علاقة بعملية أدت إلى مقتل ثلاثة مستوطنين وقعت بشارع 443 الرابط بين تل أبيب ومستوطنات القدس عام 2001، وجاء فيها أن أحد الأسباب التي تشرعن الاستيلاء على الأموال المحوّلة للسلطة ومنحها إلى عائلات القتلى الإسرائيليين هو "الضرر الناجم عن إهمال السلطة وعدم قيامها بالواجب القانوني". واعتبرت المحكمة العليا الإسرائيلية في الجلسة التي عقدت بتاريخ العاشر من إبريل/ نيسان 2022 في القضية رقم 2362/19 أن "الأموال التي تدفعها السلطة الفلسطينية للأسرى وعائلاتهم هي بمثابة "إقرار لاحق" بالمعنى الوارد في المادة 12 من قانون الأضرار، أي أنها تبنت الفعل الذي قام به الأسير لاحقاً حتى لو لم تكن مشاركة فيه أو دعمته بشكل مباشر أو عرفت به مسبقاً، ونتيجة لذلك، تُعتبر السلطة شريكة في الضرر الذي نتج عن العملية التي نفذها الأسير، وبالتالي تتحمل مسؤولية التعويض"، رغم أن السلطة استنكرت العمليات التي نفذتها المقاومة واعتقلت مقاومين خلال مرحلة تخطيطهم، كما أن الأموال التي تدفعها السلطة لعائلات الأسرى تعود إلى واجبات الرعاية الاجتماعية، كما أشارت محاميتها أفيتال شارون.
ولم يعد الأمر يتعلق بعائلات القتلى الإسرائيليين، بل تجاوز ذلك بفتح المجال أمام الجواسيس الفلسطينيين الهاربين إلى الداخل المحتل برفع دعاوى تعويض ضد السلطة، إذ تنتشر إعلانات لمحامين إسرائيليين على مواقع التواصل الاجتماعي يدعون فيها الجواسيس للتوجه إلى مكاتبهم لرفع دعاوى تعويض ضد السلطة مقابل نسبة من التعويض، ويشير مناع إلى أن الاحتلال تخلّى عن وعوده للجواسيس الهاربين وتشمل الدعم المالي، ما دفع بعضهم لرفع دعاوى ضده، لكن دولة الاحتلال وجدت وسيلة لإعادة احتوائهم من خلال أموال المقاصة، إذ قضت المحكمة المركزية في القدس في 1 أغسطس/ آب الماضي، بأن تدفع السلطة الفلسطينية أكثر من 80 مليون شيكل (22 مليون دولار)، لـ39 جاسوساً هارباً، فيما لا تزال دعاوى 41 عميلاً منظورة أمام المحكمة ذاتها، التي قضت في 2018 بتعويض 52 جاسوساً بمبلغ 13.2 مليون شيكل (3.71 ملايين دولار).
"لا حصانة قانونية للسلطة في المحاكم الإسرائيلية"
يكشف محضر جلسة في القضية رقم 14057/09/19 التي عقدتها المحكمة المركزية في القدس بتاريخ 12 فبراير 2023 عن مطالبة أحد الجواسيس بتعويضات من السلطة الفلسطينية، لكن الأخيرة أكدت عبر محاميتها، ناغا مشوفيتس، الحصانة القانونية للسلطة ضد المحاكم الإسرائيلية، عوضاً عن أن المشتكي فلسطيني والمشتكى عليه جهة فلسطينية ولا علاقة للقضاء الإسرائيلي بالأمر، فكان رد المحكمة أن "موقف الدولة، كما عُرض من قبل المستشار القانوني للحكومة، هو أن السلطة الفلسطينية لا تستوفي المعايير التي تُثبت قيام دولة بحسب القانون الدولي، وأن البتّ في مسألة حصانة السلطة الفلسطينية يحدث في كل حالة على حدة، بحسب موقف حكومة إسرائيل الذي يُقدَّم من خلال شهادة وزير الخارجية، أي إن موقفه حاسم في تأكيد أو نفي الحصانة. وأُرفقت في أوراق القضية شهادة وزير الخارجية مع موقف المستشار القانوني للحكومة، الذي قُدِّم إلى المحكمة العليا بتاريخ 20 يناير 2021، خلال النظر في قضية أحد الجواسيس الهاربين. وبناءً عليه "رُفضت ادعاءات السلطة الفلسطينية بشأن انعدام الصلاحية القضائية أو وجود حصانة لها".
الولاية القضائية للاحتلال تجسيد صريح لجوهر المشروع الاستعماري
والنتيجة القانونية لرفع الحصانة هو قدرة المحاكم الإسرائيلية على إصدار قرارات قضائية بحق السلطة الفلسطينية، كما تؤكد مديرة الدائرة القانونية في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (منظمة حقوقية مستقلة) ليما بسطامي، موضحةً أن هذه القرارات تعدّ انتهاكاً لالتزامات إسرائيل بوصفها قوة احتلال، بموجب لائحة لاهاي لعام 1907، واتفاقية جنيف الرابعة، التي تلزمها بعدم فرض نظامها القانوني على الأراضي المحتلة إلا في حدود الضرورة الأمنية، وهو ما أكّدته محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري لعام 2024، إذ اعتبرت أن بسط إسرائيل اختصاصها التشريعي والقضائي على الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة، يُشكّل خرقاً صريحاً للمادتين 43 و64 من الاتفاقيتين على التوالي، وتؤكدان عدم جواز نقل السيادة من دولة محتلة، بما في ذلك من خلال فرض قوانينها على السكان الواقعين تحت احتلالها العسكري، إلا في حالات استثنائية محدودة، ويجب في جميع الأحوال عدم المساس بمقدّرات السكان المحليين أو ممتلكاتهم أو مواردهم، وضمان إدارة هذه الموارد بما يحقق مصالحهم، مع احترام مبدأ تطبيق العدالة، فضلاً عن ضرورة الحفاظ على الطابع المؤقت للاحتلال، وعدم تحويله إلى وجود دائم عبر فرض الولاية التشريعية أو القانونية.
يشير قرار آخر للمحكمة العليا الإسرائيلية بتاريخ 6 ديسمبر/كانون الأول 2017 بأنه "على افتراض وجود حصانة قضائية للسلطة الفلسطينية بموجب قانون حصانة الدول الأجنبية لسنة 2008، فإن المادة 5 منه تؤكد أن الدولة الأجنبية لا تتمتع بالحصانة من الولاية القضائية في دعوى الضرر التي تسببت في إصابة جسدية أو ممتلكات مادية، شريطة أن يكون الضرر قد ارتكب في إسرائيل، بينما يوثق التحقيق أن بعض قرارات التعويض أقرّت لقتلى إسرائيليين قتلوا في الضفة، مثل عائلة فوغل التي حصلت على تعويض بقيمة 50 مليون شيكل، بعد مقتل خمسة من أفرادها في عملية داخل مستوطنة إيتمار، المقامة على أراضي نابلس بالضفة الغربية، ما يعني أن قرار المحكمة في هذه القضية اعتبر الضفة جزءاً من إسرائيل، "وهذا انتهاك لمبدأ أساسي في القانون الدولي الذي يعتبر الضفة أرضاً محتلة وليست جزءاً من إسرائيل"، وتوضح بسطامي أن قرارات المحاكم الإسرائيلية بمثابة حلقة في سلسلة قضائية وتشريعية إسرائيلية تهدف إلى نفي أي كيانية لأي شكل من أشكال الحكم الذاتي، وتجريد الشعب الفلسطيني من أي ولاية قانونية أو قضائية، وقطع كل صلة سيادية ووطنية له بأرضه المحتلة، في تجسيد صريح لجوهر المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، الجامع بين ضمّ الأرض، وفرض السيطرة القانونية والإدارية الكاملة، وإدامة نظام فصل عنصري منهجي يُمارَس حتى على الفلسطينيين داخل أراضيهم المحتلة عام 1967.
البقاء بأي ثمن
يتفق عساف ومناع في أن تأكيد دولة الاحتلال على عدم وجود حصانة قانونية للسلطة يفتح الباب واسعاً أمام سيل دعاوى تعويض قد تبلغ مئات ملايين الشواكل، ويمنح سلطات الاحتلال غطاءً قانونياً لاحتجاز أموال المقاصّة، وهو ما يفسر رفع شركات القطاع الخاص الإسرائيلي قضايا ضد السلطة، إذ أقامت شركة "منوره مفتاحيم" للتأمين في 19 مارس/ آذار الماضي، دعوى قضائية ضد السلطة وطالبت بتعويض بقيمة ربع مليار شيكل تقريباً بذريعة خسائرها جراء ظاهرة سرقة السيارات، وبعد ذلك بستة أيام أقر الكنيست بالقراءة التمهيدية مشروع قانون ينص على أن حكومة الاحتلال ستقتطع أموالاً من المقاصة لصالح الإسرائيليين الذين تسرق مركباتهم وتنقل لمنطقة الضفة الغربية.
بالرغم من كل ما سبق، تراجعت السلطة الفلسطينية عن مقترح للتوجه إلى المحكمة الدولية للتحكيم حتى تبت في قضية الاستيلاء على أموال المقاصة في سبتمبر/أيلول 2019 نتيجة ضغوط إسرائيلية، وفق ما يؤكده لـ"العربي الجديد"، مصدر في وزارة الخارجية الفلسطينية فضل عدم الكشف عن اسمه لأسباب وظيفية، بينما يرى عساف أن السلطة في عهد الرئيس محمود عباس تكيفت مع كل إجراءات الاحتلال وكأنها تابعة له وتعمل وظيفياً معه، فيما يصف مناع أداءها بأنه استراتيجية "البقاء" وليس "التحدي"، وهذا كفيل باستنزافها مالياً وسياسياً. لكن مدير مركز الاتصال الحكومي محمد أبو الرب يقول إن الحكومة تسعى من خلال حراك دولي لوقف سياسة الاستيلاء على أموال المقاصة والإفراج عن سبعة مليارات شيكل محتجزة لدى حكومة الاحتلال، وبالتوازي تعمل على خلق دعم مالي دولي سداً للعجز الناتج عن قرارات وقوانين الاحتلال.
