ARTICLE AD BOX
غير أن مشهد الحضارة على أعتاب المستقبل القريب، أخذ يكتسي بظلال جديدة، بعد انبثاق طفرات الذكاء الاصطناعي المتلاحقة. ففي عالم سريع التطور، بدا ذلك الحلم القديم للخلود أقرب إلى الوهم، وتبدت ملامح تحوّل يهدد ليس فقط مصادر الإبداع البشري، بل حتى فصول الحياة اليومية التي اعتدناها.
لقد شهدنا، ليس منذ زمن بعيد، عناوين الأخبار والتقارير التي تعتمد، في مقدماتها وأجزائها الأساسية، على وجوه افتراضية وأصوات رقمية تولّدها خوارزميات ذكية. رأينا مراسلين رقميين يقرأون نشرات الأخبار بصوتٍ آلي بديع، لا يتعب ولا يتعثر، ولا يطلب أجرًا ولا راحة. والأمر لا يقتصر على الإعلام، بل يشمل الفن التمثيلي أيضًا؛ إذ بات بإمكان أي مستثمر لديه القدرة المالية استبدال الممثلين والممثلات الحقيقيين بنسخٍ رقمية مصممة خصيصًا لتنفيذ الأدوار المطلوبة، بكفاءة وسرعة تفوقان قدرات البشر.
لقد آن الأوان لوضع أسس واضحة لحوكمة الذكاء الاصطناعي، تضمن عدم استبدال الإنسان بآلة في القطاعات التي تتطلب لمسة إنسانية؛ فتلك اللمسة هي ما يضفي على الفن معنى
هذا التوجه، مدفوعًا بالمنطق الاقتصادي في جوهره، يسعى لتخفيض التكاليف وتعظيم الإنتاجية، بحيث تكفي ضغطة زر لتفعيل تقنية تُقرضنا صوتًا أو وجهًا أو حركة، نهارًا أو ليلًا، دون أن نحتاج إلى منتج بشري يعترض بسبب المرض أو الإجازة أو تغيّر الراتب. وهنا يبرز القلق الحقيقي: فمصممو الديكور، ومؤلفو الموسيقى التصويرية، والكتاب والسيناريستيون، قد يجدون أنفسهم بلا موقع في سوق العمل، مستبدلين بأطر رقمية ومهندسي أوامر جلوسهم وراء شاشات توجيه الأوامر للخوارزميات.
ولا يتوقف الأمر عند قطاع الإبداع بل يتجاوزه إلى الصناعة التحويلية. فقد شهدنا تطور الروبوتات الصناعية التي تحلّ محل عمال المصانع في خطوط تجميع السيارات والإلكترونيات والطائرات. هذه الأتمتة المتقدمة قد تُفضي إلى بطالة هيكلية واسعة النطاق، تنقل البشرية مرة أخرى إلى حالة تعمل فيها فقط من أجل سد رمق العيش، كأنما نعود إلى زمن الإقطاع الذي فيه يكدّ الكادح ليوم واحد فقط.
في عام 2013، صدرت لنا رؤية سينمائية في فيلم "Her" للمخرج سبايك جونز، حيث يتوغل الممثل خواكين فينيكس في تجربة حب إنسانية لتطبيق ذكي على هاتفه، لا يراه بالأعين ولكن يسمع صوته الدافئ، ينصت ويتفاعل ويقدم الحلول. آنذاك اعتبرنا الفكرة مبالغة في الخيال، لكن اليوم، مع انتشار منصات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، لم يعد الأمر مفاجئًا. نحن ماضون نحيا في حضن الشاشات، متوحدين مع كائنات رقمية تُلبّي حاجاتنا العاطفية والاستشارية.
تخيل عالمًا بات فيه اللجوء إلى صديق بشري من أجل التنفيس عن الضغوط أو لاستشارة حكيمة أمرًا من الماضي؛ فالحياة اليومية ستتحول إلى سلسة استفسارات رقمية، ابتدأتها الشركات التقنية بقصد تسهيل الأمور، لتنتهي بتهميش دور الإنسان ذاته في بناء علاقاته الخاصة. وفي هذا المشهد، يتراجع وجود الإنسان الاجتماعي والمهني، ويصير دوره مجرد مُشغل أوامر خلف شاشة، يضبط معايير الخوارزميات ويشرف على إنتاجها.
لستُ من الأصوات الرافضة لتطور الذكاء الاصطناعي بصورة كلية، بل أقرّ بإيجابياته ودوره الذي لا يُمكن إنكاره في دفع عجلة التنمية والابتكار. لكنه، إذا تُرك دون ضوابط أخلاقية وتشريعية، سيؤدي إلى زحزحتنا من صدارة أكثر القطاعات حيوية وإبداعًا إلى هامش العمل اليدوي المحدود، حيث لا حرية ولا ابتكار. لقد آن الأوان لوضع أسس واضحة لحوكمة الذكاء الاصطناعي، تضمن عدم استبدال الإنسان بآلة في القطاعات التي تتطلب لمسة إنسانية؛ فتلك اللمسة هي ما يضفي على الفن معنى، وعلى الحياة توازنًا.
يمكن للحكومات والمؤسسات الأكاديمية والمجتمع المدني أن تتعاون من أجل صياغة قوانين وسياسات تحفظ حق الإنسان في الإبداع والتعبير والابتكار. فالعقل البشري يتميز بقدرة فريدة على العاطفة والتعاطف، وعلى استنباط المعاني ورسم الخيال بطريقة لا تستطيع الخوارزميات مجاراتها حتى الآن. علينا أن نستثمر في تنمية هذه القدرات، بدلًا من إهمالها وإلحاقها بخوارزميات تعتمد على تكرار الأنماط وتوليد النصوص والصور اعتمادًا على ما تم تدريبه مسبقًا.
في الختام، يظل حلم الخلود الإنساني متجليًا في إبداعنا وما نتركه خلفنا من أعمال وتصورات، لكننا اليوم أمام منعطف يفرض علينا حراسة هذا الحلم. فالذكاء الاصطناعي، بوصفه أداة لا هدفًا بحد ذاته، يجب أن يخدم الإنسان ولا يخنقه. وإذا ما تحالفنا على إطار وحدود واضحة، سنضمن انتقالنا إلى المستقبل دون أن نفقد جوهرنا الإنساني الذي هو سر خلودنا الحقيقي.