ARTICLE AD BOX
اختبر آلاف الغزيين مشقة السير طويلاً تحت أشعة الشمس للوصول إلى مركز توزيع المساعدات بموجب خطة أميركية إسرائيلية، حيث عاشوا الذل والموت، ولم يتمكن البعض من تحمل مشقة العودة مجدداً والحمل الثقيل
دفعت الظروف المعيشية الصعبة في قطاع غزة، واشتداد المجاعة، الأهالي إلى التوجه بأعداد كبيرة إلى مركز توزيع المساعدات الذي تديره "مؤسسة غزة الإنسانية" المدعومة أميركياً وإسرائيلياً في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، بعدما وجهت دعوات إلى الأهالي لاستلام طرود غذائية. بداية، كان الخوف من الاعتقال والتفتيش مسيطراً على كثيرين، إلا أن عودة شبان وقد استلموا مساعدات شجعت أعداداً أكبر على الذهاب. مشى شبان وأطفال ونساء نحو 6 كيلومترات تحت لهيب شمس حارقة، ووقفوا في طابور طويل داخل ممر ضيق، وعادوا منهكين إلى خيامهم. كثيرون ممن استلموا الطرود اضطروا إلى رمي بعض الأغراض لتخفيف الحمل في ظل غياب المواصلات. كانوا قد عاشوا لحظات عصيبة بسبب الفوضى والتدافع وإطلاق النار الذي أدى إلى استشهاد البعض وإصابة العشرات.
ويبدو أنّ التعثر في توزيع المساعدات، أمس الثلاثاء، فرض تغييرات، على أن يتم في وقت قريب توزيع كيس دقيق واحد لكل عائلة بالتعاون مع برنامج الأغذية العالمي. وفي حال سارت الأمور بشكل سلس، سيتم العودة إلى النظام القديم الذي يشمل توزيع الطحين وكراتين المعلبات. لكن التوزيع هذه المرة لن يتم باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، بل عبر جهات أممية تستخدم موظفي ومقدرات الوكالة نفسها، وفق ما ذكر مسؤولون محليون في غزة.
قبل أن يصل الشاب معتز عبد الرحمن (21 عاماً) إلى خيمة عائلته في منطقة المواصي غرب مدينة خانيونس، كانت صورة نعيه شهيداً قد عمت وسائل التواصل الاجتماعي. وعندما وصل إلى الخيمة الساعة السادسة مساء الثلاثاء، تحولت لحظات بكاء عائلته والجيران الذين تجمعوا أمام الخيمة على وقع انتشار الإشاعة، إلى لحظات فرح بعودته سالماً.
كان قد وصل مع عائلته إلى المواصي بعد رحلة نزوح جديدة من شمال غزة. دفعه الجوع ونفاد المستلزمات الأساسية للذهاب في رحلة شاقة للحصول على مساعدات. سار حوالي ستة كيلومترات تحت لهيب الشمس، وفي مناخ صحراوي مغبر، ونجا من موت محقق بعد مشاركة دبابات وطائرات وجنود إسرائيليون ومسيّرات الاحتلال في إطلاق النار على الأهالي، وذلك حين سادت الفوضى واقتحم آلاف الشباب مركز توزيع المساعدات.
يحكي عبد الرحمن لـ"العربي الجديد" عن رحلته. يقول: "خرجت الساعة الحادية عشرة صباحاً، وسرت مسافة طويلة من مفترق فش فرش حتى المستشفى الإماراتي في حي تل السلطان غرب مدينة رفح. كانت أعدادنا كبيرة لكن الآلية كانت مذلة. هناك خمس حلابات (نقاط تفتيش وفحص). تصطف في طابور طويل، ثم يقوم عمال شركة محلية وموظفو الشركة الأميركية بفتح البوابة لإدخال عشرة مواطنين فقط. وبعد حصولهم على المساعدة، يدخل عشرة آخرون، ما جعلنا نحترق تحت الشمس".
أمام انتظار طويل وحركة بطيئة لإدخال عشرة أفراد، وقف عبد الرحمن ساعات عدة دون وصول دوره، وتفاجأ كما غيره من الشباب بإغلاق البوابة، وإبلاغهم من قبل موظفي الشركة الأميركية بالحضور غداً، وهو ما رفضه الأهالي الذين وصلوا إلى مكان التوزيع منهكين وجوعى. يضيف: "قرر الجميع اقتحام المكان، وكانت أعدادنا تفوق أعداد موظفي الشركة بأضعاف. وعلى مقربة من المكان، كنا نرى جنود ودبابات جيش الاحتلال الذين تموضعوا في مناطق قريبة".
يتابع: "بدأنا أخذ المساعدات من الشاحنات المتوقفة داخل المركز. وفي تلك اللحظة، بدأ إطلاق نار مباشر علينا من قبل جنود الاحتلال. على الفور، استشهد أربعة شبان كانوا إلى جواري. ولم يكن ممكناً نقل أي مصاب أو شهيد بسبب شدة التدافع والفوضى. حصلت على مجموعة مستلزمات ووضعتها في قميصي الذي خلعته"، مشيراً إلى أن جنود الاحتلال اعتقلوا عدداً من الشباب ولم يعرف مصيرهم بعد.
لم تكن هذه النهاية. يقول: "خرجت من المركز، ووضعت الأغراض على قطعة بلاستيكية، وسحبتها بمساعدة شاب آخر. هكذا فعل كثيرون. ثم فوجئنا بإطلاق النار علينا بشكل مباشر من إحدى الدبابات القريبة، وسقوط شهداء في المكان. إحدى الرصاصات مرت بمحاذاة أذني، فتظاهرت أنني استشهدت وبقيت نائماً، ثم نهضت وتركت معظم الأغراض في مكانها".
ويصف تلك اللحظات بأنها "ساحة حرب"، وكان قريباً من موت محقق لكنه نجا بأعجوبة. خلال محاولته النجاة، يقول: "لم أجد الشاب الذي كان يجر القطعة البلاستيكية معي. لم أعرف ما إذا كان قد أصيب أو لا. لكنني وجدت شاباً ممدداً على لوح زينكو، وقد استشهد".
ويرفض العودة مجدداً إلى مكان استلام المساعدات، قائلاً: "لا أنصح أي أحد بالذهاب. لن أذهب حتى لو مت من الجوع. في المرة الأولى، اخترت المخاطرة بسبب عدم توفر أدنى مقومات الحياة، وقد أجبرني الجوع على الذهاب. لكن قالت لي أمي: لو بدك تجيب دهب (ذهب) مش حتروح (لن تذهب) هناك".
لم يتوقع عبد الرحمن أن تكون آلية التوزيع بهذا السوء والمخاطرة. ويوضح: "هناك أشخاص خلفك وأمامك في طابور طويل وضيق. المشهد مخزٍ، وما من معاملة إنسانية. عدا عن المشي مسافة طويلة. بعض النساء اللواتي جئن لاستلام المساعدات عمدن إلى رمي بعض أغراض لتقليل الوزن أثناء السير".
أما محمد أبو طه (35 عاماً)، الذي غادر مركز توزيع المساعدات قبل حدوث الفوضى، فقد عاد إلى أطفاله بطرد غذائي بعد فترة من الحرمان، واستقبلوه بفرح بعد جوع وحرمان. وتضمن الطرد 2 كيلوغرام من السكر، و2 كيلوغرام من الطحين، وليتراً من زيت القلي، و2 كيلوغرام من المعكرونة، وعلبتي شاي، علماً أن الأنواع اختلفت بين صندوق وآخر. وتضمنت بعض الطرود كميات من العدس، من دون أي معلبات.
سار طوال طريق العودة وهو يحمل طرداً ثقيلاً. يقول لـ"العربي الجديد": "دفعتني الظروف الصعبة إلى تحمل الطريق. لا يوجد لدينا طعام. يومياً، أستيقظ على صراخ أطفالي الجوعى. كأب، لا أستطيع تحمل ألمهم وأبقى متفرجاً". يضيف: "قبل الحرب، كنت أعمل وكانت حياتنا جميلة. اليوم أعيش في خيمة في حالة من الجوع ومن دون عمل". يضيف: "كنت خائفاً في البداية، لكنني تغلبت على خوفي من أجل أطفالي. والعودة بهذا الطرد كانت أمراً جميلاً بالنسبة إليهم. فبعض الأصناف مثل السكر وزيت الطهي والدقيق غير متوفرة، وأسعارها باهظة جداً في السوق".
كان أبو طه أحد أول الواصلين إلى مركز توزيع المساعدات. وبسبب قلة أعداد الناس في البداية، استطاع الحصول على المساعدة. يقول: "بعد مسافة سير طويلة تحت شمس حارقة، وقفنا في طابور طويل، ومررنا على خمس حلّابات. يطلبون منك الكشف عن بطنك للتأكد من عدم حمل سلاح، ثم تدخل وتستلم الطرد من دون إظهار وثيقة شخصية أو أي بيانات. بعد ذلك، بدأ توافد أعداد كبيرة وزاد الضغط على المكان".
يتابع: "في الداخل، توجد المساعدات في شاحنات متوقفة في مكان واسع. بعد ساعتين من الوقوف، بدأ الضغط يزداد. فالناس جائعة. بسبب الضغط، جرحت جراء ضيق الحلّابة. عدت عصراً إلى الخيمة رغم أنها رحلة شاقة. لكن نحن محرومون من الطعام منذ ثلاثة أشهر".
عن رحلة العودة أثناء حمل الطرد، يقول: "كان الطرد ثقيلاً. تورمت قدماي. رأيت أطفالاً ونساءً يحملون طروداً. وبسبب ثقلها، لم يستطيعوا إكمال الطريق، فتركوها وأخذوا أغراضاً خفيفة. كنت منهكاً فوق الوصف. كما أنه لا يوجد مواصلات. وكان أصحاب عربات الكارو يطلبون 50 شيكلاً لنقلنا".
إلى ذلك، يقول الباحث في المركز الفلسطيني للمفقودين، غازي المجدولاي، إنه "تم تداول أخبار عبر عدة منصات إعلامية عن وجود عدد كبير من المفقودين والشهداء في موقع توزيع المساعدات. وعلى إثر ذلك، أصدرنا بياناً طالبنا فيه الأهالي بتسجيل أبنائهم المفقودين لتوثيق الحالات بشكل رسمي. لكن لم يتم تسجيل أي حالة مرتبطة بالحادث حتى كتابة هذه السطور". يضيف: "تواصلنا أيضاً مع وزارة الصحة، وأكدوا لنا أنه لم تُسجّل لديهم أي حالة فقدان".
وكان مدير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان رامي عبده، قد أعلن عبر "إكس" أن المساعدات التي جرى توزيعهاً في رفح سرقتها الشركة الأميركية والجيش الإسرائيلي من "مؤسسة رحمة العالمية". فيما أعلنت مؤسسة إغاثة غزة أنها انتهت من توزيع حوالي ثمانية آلاف من صناديق الطعام أي ما يعادل نحو 462 ألف وجبة بحلول مساء الثلاثاء. كما وزعت حوالي 6000 طرد اليوم الأربعاء لفترة محدودة. أضافت: "إننا نعمل على ترتيب الأمور لضمان السلامة والتنظيم، وإن إيقاف توزيع المساعدات مؤقت بسبب حالات الشغب وعدم الالتزام من بعض الأفراد".
من جهته، قال المفوض العام لأونروا فيليب لازاريني، إن نموذج إسرائيل لتوزيع المساعدات في غزة هدر و"صرف للانتباه عن الفظائع" هناك. أضاف أن "نموذج توزيع المساعدات الذي اقترحته إسرائيل لا يتماشى مع المبادئ الإنسانية الأساسية. رأينا صوراً صادمة لأشخاص جياع يتدافعون نحو الأسوار، للحصول على الطعام. كان الوضع فوضوياً ومهيناً وغير آمن".
وبحسب مدير مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية أجيت سونغهاي، أصيب نحو 47 شخصا بجروح، معظمهم جراء إطلاق نار من قبل الجيش الإسرائيلي، عندما احتشد الآلاف عند مركز جديد لتوزيع المساعدات وسط غزة.
