أديب قدورة في "الفهد": ممثل الفيلم الواحد وأسير شعبيّته

2 weeks ago 4
ARTICLE AD BOX

كالعادة، نتذكّر محاسن من فقدناهم في الأوساط الفنية، باعتبارها مادة للتذكير بما قدّموه من أعمال أسهمت في صنع مشهد عام للفن في حقبات مختلفة، مُبدين الامتنان لخدماتهم، والعرفان لمشاركتهم في صنع القيم الجمالية بمجهوداتهم التي تحسب لهم في سياق الحياة الدنيا.
هذه المرة، غادرَنا الفنان الممثل أديب قدورة (هناك خلاف على سنة مولده: البعض يقول إنّه عام 1948، والبعض الآخر يقول إنّه عام 1936. لكنّ وفاته مؤكّدة: 14 مايو/أيار 2025)، فنُقدّم له احتراماً على رحلته الفنية الطويلة والمتقطعة بهذه الحياة، في سياق الطفرة الفنية التي قادت إلى الدراما التلفزيونية، في سبيل شبه وحيد لكشف الإمكانات التعبيرية للممثلين، ولفنّ التمثيل في سورية.

عام 1972، أنتجت "المؤسسة العامة للسينما" في دمشق فيلم "الفهد" لنبيل المالح، مَثّل فيه مغموران: أديب قدورة وإغراء، عن قصة لحيدر حيدر، الذي عُرف لاحقاً روائياً كبيراً. شَكّل الفيلم صدمة للوسط الثقافي، ثمّ لجمهور السينما، الذي كان شعبياً آنئذ. هذه الصدمة لم تأتِ من محتواه، ولا من حكاية الفراري (بوعلي شاهين)، الذي واجه الحكومة، باعتبارها سرداً شعبياً شفاهياً، بل من الجرأة البصرية التي تحلّى بها، مقارباً الأفلام الأوروبية بصراحتها في ذاك العصر. تتالت عروضه سنوات طويلة، كذلك فإنني شخصياً شاهدت إعلانات لإعادة عرضه في إحدى صالات العاصمة الشعبية عام 2011.
الانتقال من الأجساد العارية للأوروبيات إلى جسدٍ عارٍ لممثلة سورية (وإن لم تكن معروفة تماماً) شكّل ما يمكن تسميته صدمة، واشتهر "الفهد" (الفيلم ممتاز، ولو بمقاييس تلك الأيام)، وتدفّقت الحشود لمشاهدة الفنانة إغراء عارية كلّياً. هذه خطوة غير مسبوقة في السينما العربية، إذ لم يبق في الذاكرة حول هذا الفيلم إلّا اسمان اثنان: أديب قدورة وإغراء، رغم مشاركة آخرين، كان لهم شأن لاحق في المسرح والدراما التلفزيونية، كأسعد فضة وخالد تاجا وغيرهما.
لم يُقدم أحد من المهتمين بعلمي الاجتماع والنفس الاجتماعي على دراسة هذه الصدمة. ففي تلك الأيام، كانت الأفلام الأوروبية تستعرض أجساد ممثلاتها من دون عقد إيروتيكية، لأنّ الأولوية كانت للتعبير أكثر منها للتشويق. انتشرت هذه الأفلام في صالات الشرق الأوسط من دون حرج أو إقلال من شأن فنّ التمثيل. لكن في السياقين، العام والشعبي، نُظِر إلى تلك الأجساد بطريقتين: الأولى شهوانية وتشويقية، فتراكض الجمهور لحضورها، والثانية أنّ الأفلام وأجسادها غربية وتخصّ الغرب وحده، رغم أنّه لم توجّه تهمة الانحلال (شعبياً على الأقل) لها، بل عبّرت عروضها بكل سلاسة ورضى، ومن دون احتجاجات، ولا خوف من تأثيرها في القيم الاجتماعية. عندما جاء "الفهد"، حصل التلقّي نفسه، لكنّه أكثر تشويقاً واهتماماً بمشاهدة جسد محلي. ولم يحتجّ أحدٌ على هذا، وتقبّله النقد والصحافة من دون أي إشارة إلى عدم فنّيته.

قارن جمهور السينما حينها، وهو جمهور عمومي، بين بطل الفهد (أديب قدورة) وأبطال السينما الأوروبية والأميركية، من الناحية الشكلية. فهذا الشكل الرجولي لا يبالي بالعنف، له لحية شعثاء قذرة لشخصية قدورة، كأنّها الشخصية المقابلة لكلينت إيستوود في سلسلة "من أجل حفنة من الدولارات" و"هاري القذر"، أو بود سبنسر في سلسلة "ترينيتي"، وغيرها من الشخصيات السينمائية، التي طالما مارست الاحتجاج أو المقاومة فردياً، وعلى طريقتها. هذا حصل مع إغراء أيضاً، التي قورنت بطريقة ما ببريجيت باردو وآني جيراردو، وممثلات غربيات كثيرات ظهرن عاريات. كأنّ لهذه المقارنة فعلَ المرجعية الفنية، على أساس أنّ الأجانب أكثر علماً ومعرفة بفن التمثيل، ونحن نحذو حذوهم محاولين اللحاق بهم.
لعلّ هذه المقارنة أدّت إلى ذكر المرجعية، التي جعلت أديب قدورة يوازي إغراء في أهميته لدى الجمهور. فأساساً، كان الجمهور يأتي لمشاهدة جسد إغراء، وليس قدورة، رغم تنكّبه دور البطولة. لكنّ متانة "الفهد" ومحتواه الثوري (حينذاك) جعلت أديب موازياً تماماً، بكونه بطلاً شعبياً مغامراً، وعلى حقّ أيضاً، آخذاً مكانه نجماً وقتاً طويلاً، وإن مؤقّتاً، إذ فشلت تجربته الثانية مع إغراء في "الحب المزيف" (1980)، اعتماداً على ثنائية الرجل الفحل ـ المرأة العادية.

في الأحوال كلّها، فإنّ المشهد الذي صنع شعبية "الفهد" وممثليه، كان مشهداً مُضافاً إليه بعد الانتهاء من تصويره، ومن عملياته الفنية، وعرضاً تجريبياً على إدارة المؤسسة العامة للسينما، إذ "اقترح" مديرها العام (حينها) د. حميد مرعي، إضافة مشهد تشويقي أسوة بالأفلام التي يشاهدها الجمهور السوري، من دون حساسيات وإشكالات رقابية. صُوّرت هذه المشاهد في مكان قريب من دمشق، وليس في المواقع الأصلية للتصوير. وبالفعل، كان "الاقتراح" ضربة معلّم، إذ لم تكن الأجواء السينمائية وقتها ملبّدة بسُحب الرقابات الرسمية والشعبية.
لا شيء ممّا قدمه أديب قدورة يوازي نجاحه في "الفهد"، رغم مشاركته في أفلامٍ أجنبية وعربية عدّة، ولاحقاً في مسلسلات درامية، فبقي أسيره، ولم يتجاوزه فنياً ونجومياً بما يتناسب مع الاحتفاء الأول به، لكنّه ظلّ وفياً لرسالته الفنية إلى آخر حياته.

Read Entire Article