أميركا المسيحانية وما وراء مشروع "إستير"

3 days ago 3
ARTICLE AD BOX

في مقدمته الخالدة، كاسمه، يرى المفكر والفيلسوف عبد الرحمن بن خلدون، تبدلَ الأفكار المهيمنة في أي مجتمع بدايةً يلحقها تغيير في هياكل السلطة، وهو بالضبط ما نلمس أثره اليوم في أميركا، ومعاناتها من تبعات ديمقراطيتها الشائخة وأزمة نموذجها الناكص على عقبيه ليس في صورته الترامبية الحالية فقط، وإنما في عهد بايدن وما كان يمثله من مؤسسات تقليدية، تبين في نهاية المطاف عجزها عن مواجهة الأزمات الداخلية والخارجية، وفقدانها القدرة على تجديد ذاتي عقلاني يوقف استقطاباً مجتمعياً ويفتح آفاقاً جديدة أمام الإمبراطورية، وإن كانت أداتية مثل مشروع "نشر الديمقراطية" على ظهر دبابات "المحافظين الجدد"، الذين يبدو أننا سنتحسر على أيامهم، مقارنة بهؤلاء "الإلهيين" كما يصفهم كتاب "أميركا المسيحانية وحروب المحافظين الجدد"، أو ما يعرف بتيار الصهيونية المسيحية المتوغل داخل الإدارة الحالية، بعد توسع نطاق انتشار شبكاته المحلية والدولية منذ عقود.

من قلب الأزمة، التقط تيار ماضوي الفرصة، مجتراً أفكاراً تراثية بالية اكتسبت زخماً كبيراً في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً مع الرئيس رونالد ريغان المدعوم من المحافظين الجدد واليمين الديني، ومن وقتها بدأ صعود التيار ومحاولته للهيمنة على البلاد، التي تتبدى جلياً في أسماء مشاريعه ذات الحمولات الدينية مثل "تفويض إلهي" أو "نبوءة الجبال السبعة" (المصطلح مستمد من سفر الرؤيا) ويعني تكليف المؤمنين بالسيطرة على جبال السلطة المجتمعية، وهي الحكومة، والدين، والأسرة، والتعليم، والإعلام والفنون، والترفيه، والتجارة، كما يقول الباحثان الأميركيان المتخصصان في حركات اليمين المتطرف بمركز Political Research Associates فريدريك كلاركسون وبن لوربر ضمن تقرير بعنوان: "الصهيونية المسيحية في حملة صليبية معاصرة"، نشره موقع أوريان 21.

مستهدفات هذا المخطط تتقاطع مع آخر يدعى مشروع "إستير"، وسُمي كذلك تكريماً لملكة توراتية يُحتفى بها لإنقاذها الشعب اليهودي، وتقف وراءه مؤسسة هيرتيج المحافظة التي تصنف من بين الجهات الأكثر نفوذاً في واشنطن، وبرز دورها الكبير وتأثيرها على صانع القرار منذ عهد ريغان، وبالطبع تدعم أجندة مختلطة، تضم ما يبحث عنه المحافظون الجدد، في نقاط مثل توسيع الدور والإنفاق العسكري الأميركي عالمياً، بينما داخلياً تقف ضد المثليين والحق في الإجهاض وسياسات مكافحة تغير المناخ، وغيرها من قضايا اليمين الديني، المعادي لليساريين والنخب التقدمية والليبراليين، وهؤلاء هم الهدف للثاني للمشروع بعد الحركة المؤيدة للفلسطينيين في أميركا، إذ يركز، بحسب تحقيق لـ"نيويورك تايمز"، على ما يطلق عليه معاداة السامية لدى اليسار، متجاهلاً المضايقات والعنف المعادي لها من اليمين القريب من ترامب وأفكاره، وكل ذلك تحقيقاً لحلم تيار الصهيونية المسيحية الأثير بتجسيد أفكار نهاية العالم المذكورة في الكتاب المقدس على أرض الواقع، بالتالي يرون في دعم إسرائيل تعزيزاً للنفوذ العالمي للمسيحية، أو ما يطلقون عليه الألفية السعيدة، وهي مدة زمنية يعتقدون أنها ستحقق لهم الحكم المسيحي النقي والكامل.

القائمون على هذه المشاريع بالتأكيد يستخدمون أحدث أنواع التكنولوجيا، ويعيشون في أكثر المجتمعات تطوراً، ومع أن أجسادهم في القرن الواحد والعشرين، إلا أن أوراحهم وعقولهم تحيا في زمن المسيح كما يتخيلونه، وفق تفسير خاص بهم يتيح لهم حشد ملايين المؤمنين والداعمين، من بينهم أعضاء في الحكومة الأميركية وعسكريون ودبلوماسيون ونواب كونغرس وشبكات إذاعية وتلفزيونية وجامعات ومستشفيات، كلها معنية بالانتشار والسيطرة المجتمعية بحسب "معتقد الجبال السبعة"، ولا يوجد أسهل من اتهام من يقف في طريقهم بأنهم ينتقدون إسرائيل ويدعمون الإرهاب كما جاء مخطط "إستير"، ومن خلال ذلك يمكن ترحيلهم وسحب تمويلهم ومقاضاتهم وفصلهم من العمل، وهو ما نراه حالياً في واشنطن استهدافاً لوسائط إعلامية أو مؤسسات أكاديمية تمثل المرحلة الأولى من الانزلاق نحو السلطوية، فما يجري ليس استراتيجية وطنية حقيقية لمكافحة معاداة السامية، وإنما خطوة على طريق الديكتاتورية، فمن كان يتوقع أن تفتش الهواتف وحسابات التواصل الاجتماعي في الجامعات والمطارات والمنافذ البرية، وترحيل من كتب رأياً يخالف رواية الطغمة الحاكمة في واشنطن الترامبية.

عربياً، لا يقتصر خطر هذا التيار في تشجيع دولة الاحتلال على إجرامها فقط، إذ سبق أن ضرب منطقتنا عبر أفكاره المتطرفة مبكراً، ففي 21 أغسطس/آب 1969، أشعل سائح  أسترالي يدعى دينيس مايكل روهان النار في المسجد الأقصى، وتسبب في حريق هائل أدى إلى تدمير واسع في المصلى القبلي ومنبر السلطان صلاح الدين الأيوبي، في حادث ساعدته فيه دولة الاحتلال بقطع المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد وعرقلة وصول سيارات الإطفاء، وتبين بعدها أن روهان كان متشبعاً بأفكار واحدة من تلك الكنائس المنتمية لتيار اليمين الديني المنطرف، واعتاد قراءة مجلتها "الحقيقة الواضحة"، وأقدم على فعلته من أجل التعجيل بعودة المسيح المرتبطة ببناء الهيكل الثالث، وثبت أنه تدرب على يد جماعات يهودية متطرفة لمدة عامين، وقتها كانت خارج دائرة الحكم، إلا أنها بالتأكيد تقبع اليوم وتمسك بتلابيب حكومة دولة الاحتلال، بل إن السفير الأميركي المنتمي إلى التيار ذاته، مايك هاكابي، يشجعها على أفكارها وهي في الحقيقة لا تختلف عن معتقداته، وإلا لم يكن ليزور مزرعة أبقار في مستوطنة "شيلو" الواقعة شمال شرق رام الله رفقة زوجته بداية الشهر الجاري، وفيها توجد خمس بقرات حمراوات، تعتقد جماعات الهيكل المتطرفة أنها إشارة إلهية إلى قرب بناء "المعبد الثالث" مكان المسجد الأقصى وظهور المسيح المنتظر.

المعلوم من البديهيات يمكن الاستدلال عليه بغير مقدمات، وتلك المشاريع معلنة وليست خفية، أو مؤامرة وهمية تحاك في الظلام، اليوم يقول القوم إنهم سيشيّدون هيكلهم المزعوم، حتى إنهم في عام 2014 بنوا مجمعاً كنسياً بتكلفة 300 مليون دولار بمدينة ساوباولو في البرازيل، وزعمت الكنيسة الخمسينية العالمية أنه نسخة مطابقة لهيكل سليمان الذي سيعاد تشييده، لذا جرى محاكاة العملية في البناء الجديد واستجلاب حجارة من القدس لأرضيته وجدرانه، كما يقول الباحثان كلاركسون ولوربر، ما يطرح أسئلة برسم زعماء وشعوب الدول العربية، ماذا أنتم فاعلون؟

Read Entire Article