أوروبا تلوّح بالعقوبات... موقف يربك إسرائيل

3 hours ago 3
ARTICLE AD BOX

صدرت في الأيام الأخيرة، سلسلة من التصريحات الدولية الرسمية المندّدة بالسياسات والممارسات الإسرائيلية واستمرار حرب الإبادة على غزة. اللافت هذه المرة أن هذه التصريحات اقترنت بتهديدات جدية بفرض عقوبات على إسرائيل في حال لم تُنهِ حربها على غزة وتسمح بإدخال المساعدات الإنسانية بشكل كافٍ. والأبرز أن هذه التصريحات صدرت عن أقرب حلفاء إسرائيل، أولئك الذين وقفوا إلى جانبها بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ودعموا الحرب على غزة، وصمتوا لأكثر من عام ونصف العام على الجرائم التي ارتكبتها، وعلى تدمير غزة واستشهاد أكثر من 50 ألف فلسطيني.

كانت بداية عاصفة المواقف المنددة والمهددة قبل عدة أيام، حين أصدر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، ورئيس وزراء كندا مارك كارني، بياناً مشتركاً أعلنوا فيه أنهم لن يقفوا "مكتوفي الأيدي" إزاء "الأفعال المشينة" التي ترتكبها حكومة إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو، في قطاع غزة. ولوّح القادة الثلاثة باتخاذ "إجراءات ملموسة"، ضمنها عقوبات فعلية، إذا لم تبادر إسرائيل إلى وقف عمليتها العسكرية، وتفسح المجال لإدخال المساعدات الإنسانية بشكل فوري وكافٍ. كذلك، طالب وزراء خارجية 22 دولة، بينها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وكندا واليابان وأستراليا، يوم الاثنين الماضي، إسرائيل بـ"السماح بدخول المساعدات بشكل كامل وفوري" إلى قطاع غزة، تحت إشراف الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية.

يعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأكبر والأقرب جغرافياً لإسرائيل

قد تكون المفاجأة الكبرى لإسرائيل في سلسلة التصريحات الأخيرة هي مطالبة كاسبار فيلدكامب، وزير خارجية هولندا، الدولة الصديقة، بإجراء تقييم في الاتحاد الأوروبي لمدى التزام إسرائيل ببند حقوق الإنسان، في خطوة نحو تعليق اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، خلال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل في الأيام القادمة. هولندا لم تبق وحيدة في طلبها هذا، بحيث انضمت الى هذا المطلب أيضاً دول أخرى، مثل السويد وفنلندا والبرتغال وبلجيكا.

أوروبا تطلق مراجعة لاتفاق الشراكة مع إسرائيل

وأعلنت مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، أول من أمس الثلاثاء، أن التكتل سيطلق مراجعة لاتفاق الشراكة مع إسرائيل على ضوء المستجدات الأخيرة في قطاع غزة. وقالت، في ختام اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل: "لدينا غالبية قوية مؤيدة لمراجعة البند الثاني (حول احترام حقوق الإنسان) من اتفاق الشراكة مع إسرائيل. إذاً سنباشر هذا الأمر". وأيدت 17 دولة، بينها فرنسا، هذه المراجعة، وفق ما أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، أمام الجمعية الوطنية في باريس. وبحسب وكالة فرانس برس ستباشر المفوضية الأوروبية هذا الإجراء للتحقّق مما إذا كانت إسرائيل تحترم حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية، وهي شروط منصوص عليها في البند الثاني من الاتفاق. وقال وزير الخارجية البلجيكي مكسيم بريفو: "لدي شعور شخصي بأن انتهاك حقوق الإنسان واقع بلا أدنى شك"، مستدركاً أنه لا يسعى إلى "استباق القرار" الذي ستتخذه المفوضية الأوروبية. وأكدت إسرائيل، الثلاثاء الماضي، أن الضغوط الخارجية لن تجعلها تحيد عن موقفها في ما يتّصل بتكثيف عملياتها في غزة. كما أعلنت الحكومة البريطانية، أول من أمس، تعليق مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل.

تُعدّ خطوات الدول الأوروبية الأخيرة، التي تُعتبر تقليدياً صديقة لتل أبيب، بمثابة المرة الأولى التي يبادر فيها الاتحاد الأوروبي لاتخاذ موقف هجومي ضد إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023، مستغلًا كونه الشريك التجاري الأكبر لها للضغط والمطالبة بتغيير السياسات الإسرائيلية. قد تكون التبعات الاقتصادية لهذه الخطوات والتصريحات كارثية بالنسبة لإسرائيل، وهو ما تخشاه أكثر من أي شيء آخر في ظل الوضع الراهن للاقتصاد الإسرائيلي. في الواقع، فإن قلق إسرائيل لا يرتبط فقط بنتيجة النقاش المرتقب في اجتماع مجلس وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، أو بالمراجعة القانونية المتوقعة، بل هو قلق يعكس إدراكاً بأن الأمور لم تعد كما كانت. صحيح أن تعليق اتفاق الشراكة يتطلب إجماعاً كاملاً داخل الاتحاد الأوروبي، وهو أمر غير مرجّح طالما أن لإسرائيل أصدقاء مثل ألمانيا، والنمسا والمجر، إلا أن مجرد طرح هذا النقاش، والتصريحات المرافقة له، قد يترك أثراً ملموساً على العلاقات الاقتصادية الثنائية. وحتى إن لم تُتخذ قرارات رسمية، فإن المناخ السياسي الجديد قد يُفضي إلى تراجع في التعاون التجاري والاستثماري مع الاتحاد الأوروبي.

الشراكة الاقتصادية الأكبر... مهددة

بدأت العلاقات الاقتصادية والتجارية المميزة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي بالتوقيع على اتفاق لإنشاء منطقة تجارة حرّة في العام 1975، وكان ذلك أول اتفاق من نوعه تبرمه إسرائيل. ساهم الاتفاق في تعزيز التقارب بين الجانبين، ومهّد الطريق للانتقال إلى مستوى أعلى من التعاون الثنائي. وفي 1995، تم التوقيع على "اتفاقية الشراكة" بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، والتي دخلت حيّز التنفيذ في الأول من يونيو/حزيران 2000. وتُعدّ هذه الاتفاقية الإطار القانوني الرئيسي المنظم للعلاقات بين الجانبين، وهي من نوع الاتفاقيات التي تهدف لإقامة علاقة وثيقة وعميقة، تفوق بكثير مستوى اتفاقيات التجارة التقليدية، لكنها لا تصل إلى مستوى العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي.

يمكن أن يكون الضغط الدولي المتزايد عاملاً مؤثراً في الدفع نحو تغيير سلوك إسرائيل

أنشأ هذا الاتفاق نظاماً شاملاً ومتكاملاً يغطي معظم مجالات التجارة، إلى جانب مجالات أخرى سياسية، اجتماعية، وثقافية. وقد اعتُبرت الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي على مدى عقود الركيزة الأساسية في علاقات إسرائيل مع الاتحاد، سواء من حيث التبادل التجاري أو من حيث الانخراط في المشاريع الأوروبية في مجالات البحث والعلوم والتعليم. الاتحاد الأوروبي يُعدّ الشريك التجاري الأكبر والأقرب جغرافياً لإسرائيل. ووفقاً لمعطيات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، فقد بلغ حجم الواردات من دول الاتحاد الأوروبي في العام 2023 نحو 44 مليار دولار، وهو ما يشكّل 48% من مجمل الواردات التي بلغت 91.8 مليار دولار. أما الصادرات الإسرائيلية إلى الاتحاد الأوروبي فقد بلغت نحو 23 مليار دولار، ما يشكّل 36% من مجمل الصادرات للخارج، والتي بلغت نحو 63.5 مليار دولار.

بذلك، فإن إجمالي حجم العلاقات التجارية بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي يصل إلى قرابة 67 مليار دولار، أي ما يعادل مرتين ونصف حجم العلاقة التجارية بين إسرائيل والولايات المتحدة في العام 2023، والتي بلغت نحو 26.5 مليار دولار. أما بالنسبة للعلاقات التجارية مع بريطانيا، فقد بلغ حجم الصادرات الإسرائيلية إليها في 2023 نحو 2.1 مليار دولار (أي ما يعادل 3% من مجمل الصادرات)، في حين بلغ حجم الواردات نحو 2.9 مليار دولار (ما يشكّل 3% أيضاً من مجمل الواردات). تُدرك إسرائيل تماماً أن أي تراجع في صادراتها قد يؤدي إلى ضرر كبير في الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات النمو الاقتصادي، ما سينعكس سلباً على مستوى جباية الضرائب، وبالتالي على إيرادات الحكومة. وقد يُفاقم ذلك من أزمة العجز في الموازنة العامة، والذي كان مرتفعاً أصلًا، إذ بلغ 6.9% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024.

ضرر محتمل للبحث والتطوير العلمي

يشكّل اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل الأساس القانوني لمجموعة من الاتفاقيات الإضافية التي تربط الطرفين، من أبرزها اتفاق "الأجواء المفتوحة"، وبرامج تبادل الطلاب ضمن إطار برنامج "إيراسموس"، والتعاون العلمي ضمن برنامج "هورايزن" الذي يُعتبر من أكبر برامج البحث والتطوير العلمي المتاحة أمام الجامعات ومراكز الأبحاث والشركات الإسرائيلية. وقد تم التوقيع رسمياً على انضمام إسرائيل بصفة عضو كامل في برنامج "هورايزن" في العام 2021، بعد أن كانت منذ 1996 تتمتع بوضع "شراكة". ووفقاً لموقع مجلس التعليم العالي الإسرائيلي، أصبح برنامج "هورايزن" يُمثّل المساهمة الأهم والأكبر في تطوير البحث العلمي في إسرائيل، ويُعدّ من أبرز محركات النمو الاقتصادي. فلا يوجد برنامج مماثل من حيث الحجم والفرص، إذ يوفّر إمكانية الوصول إلى ميزانية تصل إلى 77 مليار يورو، وإلى شبكة المؤسسات العلمية الأوروبية.

منذ انضمام إسرائيل إلى برنامج الإطار الأوروبي عام 1996، قدّمت نحو 17000 جهة بحثية إسرائيلية طلبات للمشاركة، وحصل حوالى 4100 منها على تمويل. ويبلغ إجمالي قيمة المنح التي حصلت عليها هذه الجهات نحو 1.25 مليار يورو. بالإضافة إلى ذلك، تم استثمار 550 مليون يورو أخرى في شركات إسرائيلية وصناديق رأس مال مخاطر، من خلال أدوات تمويلية مختلفة أتاحها البنك الأوروبي للاستثمار في إسرائيل. بذلك، وحتى في حال تم إحباط محاولة تعليق اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، فإن مجرد الشروع في فحص البند الثاني من الاتفاق (المتعلّق بحقوق الإنسان والديمقراطية) سيبعث، وفقاً لتحليلات إسرائيلية، رسالة سياسية واضحة مفادها: "إسرائيل أصبحت دولة مارقة من القانون". هذه الرسالة قد تكون كفيلة بتهديد العلاقة الاقتصادية بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي، وقد تنعكس سلباً على الوضع الاقتصادي الداخلي في إسرائيل. كما أنها قد توجّه ضربة قاسية إلى الأكاديميا وقطاع البحث العلمي والتطوير، خصوصاً إذا ما اتخذت بعض الدول الأوروبية، أو مؤسسات الاتحاد الأوروبي، خطوات عقابية غير رسمية أو غير معلنة. في مثل هذا السيناريو، سيكون الضرر سياسياً واقتصادياً وعلمياً مركّباً، حتى من دون فرض عقوبات رسمية.

هل هذا كافٍ لفرض التغيير؟

صحيح أن التحوّلات في مواقف عدد من الدول الأوروبية المركزية، التي تُعدّ تاريخياً من أصدقاء إسرائيل، تجاه سياسات وتصرفات الحكومة الإسرائيلية واستمرار حرب الإبادة على غزة، وكذلك المواقف الناقدة والمستاءة من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لم تُفضِ حتى الآن إلى تغييرات جوهرية في سياسات إسرائيل، لا باتجاه وقف الحرب، ولا التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى والمخطوفين، ولا حتى في السماح بإدخال كميات كافية من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، لكن ردّة فعل الحكومة الإسرائيلية على هذه التحوّلات تشير إلى أنها تغيّرات مؤلمة ومُربِكة. هذا الضغط الدولي المتزايد، يمكن أن يكون عاملاً مؤثراً في الدفع نحو تغيير سلوك إسرائيل، وإعادة النظر في استراتيجيتها، وربما وقف حرب الإبادة على غزة، خاصة إذا بدأت بعض التهديدات – مثل فرض عقوبات اقتصادية أو تقييد العلاقات الثنائية – تُنفّذ فعلياً على أرض الواقع. هذا التحول يثير قلقاً وارتباكاً عميقين لدى إسرائيل، ولأسباب وجيهة.

Read Entire Article