ARTICLE AD BOX
منذ سنوات، قلت إن استيراد مصر الغاز الطبيعي من إسرائيل تهديد مباشر للأمن القومي والاقتصادي المصري، وجريمة بحق الدولة المصرية، وإن غاز الاحتلال أو العدو "احتلال" مباشر، وإن ربط أمن الطاقة في مصر بمصادر الطاقة داخل دولة الاحتلال أمر بالغ الخطورة، وإن دخول الغاز الإسرائيلي بيوت ومصانع ومحال المصريين هو أمر كارثي من الناحية الاقتصادية والاجتماعية بل والسياسية، وإنه مع أول خلاف بين القاهرة وتل أبيب فإن دولة الاحتلال لن تتردد لحظة في محاولة نشر الفوضى الاقتصادية والظلام والأزمات المعيشية في مصر، والتسبب في قطع الغاز عن المصانع الحيوية ومواقع الإنتاج الحيوية وشركات توليد الكهرباء، وهو ما تحاول إسرائيل فعله هذه الأيام، خاصة مع اعتماد مصر في السنوات الأخيرة وبشكل كبير على الغاز الإسرائيلي المنتج والمستخرج أصلاً من حقول مصرية وفلسطينية منهوبة في شرق البحر المتوسط.
وكتبت في مقالات عدة أنه من الأفضل لمصر تنويع مصادر واردات الطاقة، خاصة الغاز ومشتقات الوقود، وأنه من الأفضل ربط سوق الطاقة المصرية بأسواق دول عربية وأجنبية شقيقة وصديقة مثل قطر، وغيرها من دول الخليج والجزائر وليبيا والعراق وروسيا، خاصة مع توافر كميات ضخمة من الغاز لدى هذه الدول قابلة للتصدير وبأسعار مناسبة وشروط ميسرة وعلى آجال طويلة، وأنه ليس من المستساغ أن توفر حكومة الاحتلال الرفاهية للمواطن الإسرائيلي من جيب دافعي الضرائب في مصر.
مع أول خلاف بين القاهرة وتل أبيب فإن إسرائيل لن تتردد لحظة في محاولة نشر الفوضى الاقتصادية والظلام والأزمات المعيشية في مصر، وقطع الغاز عن المصانع الحيوية وشركات توليد الكهرباء
إلا أن صانعي القرارات وراسمي السياسات في مصر ضربوا بهذه النصائح وغيرها من المقترحات التي قدمها غيورون على الدولة المصرية عرض الحائط، وبدأت مصر ومنذ عام 2018 في الاعتماد الكلي على غاز الاحتلال، حيث جرى إبرام اتفاق طويل الأجل ولمدة عشر سنوات من قبل الدولة المصرية لاستيراد الغاز من إسرائيل في صفقة بدأت قيمتها بنحو 15 مليار دولار، ثم ارتفعت القيمة مع التوسع المصري الكبير في الاستيراد لأكثر من 21 مليار دولار.
بل وكان من المتوقع أن يرتفع الرقم الذي يدخل الخزانة الإسرائيلية من جيوب المصريين، مع دخول الحكومة المصرية في مفاوضات مباشرة مع الحكومة الإسرائيلية في فبراير/ شباط الماضي، للاتفاق على زيادة وارداتها من الغاز الطبيعي بنحو 58% من مستواها البالغ 950 مليون قدم مكعبة يومياً، اعتباراً من النصف الثاني من العام الجاري، ضمن مساعي تأمين احتياجات الأسواق المصرية من الغاز خلال أشهر الصيف، واللافت أن تلك المفاوضات تواصلت رغم استمرار حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال على أهالي غزة.
ورغم الكشف عن حقل ظهر الذي صنفته مصر بأنه أكبر حقول إنتاج الغاز في منطقة الشرق الأوسط، وبدأت الإنتاج منه، والتأكيد رسمياً أنه يكفي لتلبية الأسواق المحلية لسنوات طويلة، بل وسيجري تصدير الفائض لدول وأسواق عدة ولسنوات ممتدة، فإن الحكومة المصرية واصلت استيراد الغاز من دولة الاحتلال، رغم الإعلان رسمياً عن توقف الاستيراد من الأسواق العالمية منذ عام 2018 بدعوى وجود اتفاقات مبرمة مع تل أبيب، كما أن الغاز الإسرائيلي تجري إعادة تصديره إلى الخارج، في إطار خطة تحويل مصر إلى مركز إقليمي لتصدير وصناعة الغاز. هكذا كان الموقف الرسمي المعلن في مصر وقتها، والذي يُصدّر إلى الرأي العام المحلي.
ومع تهاوي الإنتاج المصري من الغاز الطبيعي من حقل ظهر وحقول أخرى تم الاعلان عن اكتشافها في السنوات الأخيرة، والحديث المتزايد عن خروج الحقل العملاق عن الخدمة، وتأكد تل أبيب من اعتماد مصر كلية على الغاز الإسرائيلي، وحاجة الدولة المصرية المتنامية والمُلحة إلى الطاقة حتى لا يرتبك المشهد الصناعي والكهربائي، وتحدث انقطاعات واسعة النطاق للتيار، كما جرى في الصيف الماضي، بدأت إسرائيل سياسة ابتزاز مصر وبشكل واسع.
زادت سياسة الابتزاز الإسرائيلية تجاه مصر مع تعمق الخلافات بين القاهرة وتل أبيب بشأن حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ورفض القاهرة سياسة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، أو أي أراض مصرية، ومهاجمة القاهرة الحكومة المتطرفة والعنصرية في تل أبيب في بعض المحافل الدولية، وتنسيق القاهرة والدوحة معاً في ملف مفاوضات غزة.
زادت سياسة الابتزاز الإسرائيلية تجاه مصر مع تعمق الخلافات بين القاهرة وتل أبيب بشأن حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على غزة ورفض القاهرة سياسة تهجير الفلسطينيين
أشكال الابتزاز الإسرائيلي تجاه القاهرة أخذت أشكالاً متعددة، وبدأت مع طلب مصر زيادة الكميات الموردة إليها خلال الشهرين المقبلين، يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز، لمواجهة الطلب المتزايد على الطاقة في أشهر الصيف، فمرة تبلّغ تل أبيب القاهرة بوقف تصدير الغاز إلى الأسواق المصرية، إلى حين تعديل الأسعار وزيادة السعر الحالي للغاز المورد بنسبة لا تقل عن 40%، ضاربة عرض الحائط ببنود الاتفاقات السابقة المبرمة في عام 2018 وما بعدها، والتي لا تزال سارية، ومتجاهلة تراجع أسعار مشتقات الطاقة في الأسواق الدولية، ومستغلة حاجة مصر الماسّة للغاز اللازم لتزويد محطات الكهرباء وقطاع الصناعة والإنتاج بالطاقة مع قدوم فصل الصيف.
في المقابل ترفض الحكومة المصرية القبول بالضغوط الإسرائيلية المتزايدة خاصة المتعلقة بزيادة الأسعار، لأن هذا يشكل ضغطاً شديداً على موازنة الدولة التي تعاني من فجوة تمويلية ضخمة وعجزاً كبيراً، ويدفع القاهرة نحو الحصول على مزيد من القروض الخارجية لسد كلفة واردات الغاز التي قاربت من مبلغ الخمسة مليارات دولار في العام الماضي.
ومرة تتلكأ إسرائيل في تأخير توريد الغاز لمصر، عبر إشهار ما يعرف في الأعراف الدولية بالظروف القاهرة، وإظهار حجة تنفيذ أعمال صيانة دورية في خطوط تصدير الغاز، للتهرب من الاتفاقات والعقوبات الواردة في الاتفاقات المبرمة بشأن توريد الغاز كما جرى اليوم الاثنين، حيث قطعت إسرائيل وبشكل مفاجئ توريد الغاز عن مصر لمدة أسبوعين، وهو ما دفع الحكومة المصرية إلى الإسراع للتعامل مع الأزمة الطارئة، عبر اتخاذ قرار بخفض إمدادات الغاز الطبيعي إلى مصانع الأسمدة والميثانول العاملة بنسبة 50% اعتباراً من اليوم ولمدة 15 يوماً.
سياسة الابتزاز التي تمارسها دولة الاحتلال على القاهرة بشأن ملف الغاز الطبيعي ستكون لها أضرار بالغة على الاقتصاد المصري، خاصة قطاعات حساسة، مثل الصناعة وتوليد الكهرباء، صحيح أن الحكومة المصرية تتحرك منذ فترة وبسرعة للتعامل مع تبعات الأزمة المتصاعدة مع تل أبيب، لكن الوقت قد لا يكون في صالح الدولة المصرية، حيث إن إبرام تعاقدات سريعة مع موردين جدد، وشراء شحنات بشكل عاجل من الأسواق الحاضرة يحتاج إلى أموال ضخمة، وربما يأتي التنسيق المصري القطري التركي الأخير بشأن توفير احتياجات مصر من الغاز ليقلل من تأثيرات الابتزازات الإسرائيلية المتزايدة على القاهرة وقطاع الطاقة بها.
