إسرائيل تنتقم من غزة بعد تفاهمات ترامب مع حماس

6 days ago 6
ARTICLE AD BOX

رثت العديد من مقالات الرأي والتحليل في الصحافة الإسرائيلية خلال الأسبوع الأخير العلاقات الحميمة التي كانت سائدة سابقاً بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب، وذلك في أعقاب زيارة الأخير إلى السعودية وقطر والإمارات. واستندت هذه المقالات إلى سلسلة من مفاجآت ترامب الأخيرة، مثل الإعلان عن بدء مفاوضات مع إيران، والاتفاق على وقف إطلاق النار في اليمن، والتفاهم حول مشروع نووي مدني في السعودية، فضلاً عن تفاهمات ترامب مع حماس لإطلاق سراح المحتجز الإسرائيلي-الأميركي الوحيد الحيّ في غزة عيدان ألكسندر دون علم مسبق لدى الحكومة الإسرائيلية.

ترى غالبية هذه التحليلات أن مكانة إسرائيل لدى الإدارة الأميركية، وموقعها الاستراتيجي بشكل عام، تراجعا لصالح تعزيز مكانة دول مثل السعودية وقطر. وتُحمّل هذه التحليلات نتنياهو المسؤولية الأساسية عن هذا التراجع، نتيجة رفضه التقدم نحو اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مع حركة حماس، وكل ذلك بسبب ارتهانه لشروط اليمين المتطرّف، وتحديداً الوزيرَين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير.

تتجاهل التحليلات الإسرائيلية وجود علاقات استراتيجية دائمة وثابتة بين الولايات المتحدة ودول الخليج

اعتبر المحلل العسكري في صحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، أن الولايات المتحدة تعيد تشكيل تحالفاتها في المنطقة من بوابة الاقتصاد وتسوية النزاعات، بينما تبتعد عن نهج "الهيمنة العسكرية". وبحسبه، فإن إدارة ترامب تُجسّد مزيجاً من البراغماتية، والنزعة التجارية، إلى جانب عدم الرغبة بالتورّط في حروب طويلة الأمد. ورأى هرئيل أن ترامب يسعى إلى فرض تسويات على الأطراف الإقليمية، بما فيهم إسرائيل، التي لا تبدو مستعدة للقبول بأي صيغة تشمل وقف الحرب على غزة، وأشار إلى أن دور إسرائيل في التطورات الجارية يبدو حتى الآن هامشياً.

المحلل السياسي في صحيفة يديعوت أحرونوت، ناحوم برنيع قال إن زيارة ترامب إلى الخليج كشفت فعلياً عن انزياح مركز الثقل في السياسة الأميركية بعيداً عن إسرائيل، وأن الأخيرة أصبحت "الطفل الذي تُرك في البيت"، بعدما فقدت مكانتها بصفتها "الدولة الديمقراطية المستقرة الوحيدة التي تحظى بقبول من الحزبَين في واشنطن". أما المحلل العسكري في صحيفة يسرائيل هيوم، يوآف ليمور، فرأى أن الشراكة الإسرائيلية – الأميركية، التي اعتُبرت طوال سنوات حجر الزاوية في التوجهات الإقليمية لواشنطن، قد "وُضِعت جانباً هذا الأسبوع". وأضاف: "لم تُلغَ الشراكة بالكامل، لكن واشنطن أعلنت بوضوح أنها تمضي قدماً وفقاً لمصالحها الخاصة"، وحذّر من أن إسرائيل باتت أقرب إلى "دولة منبوذة" في نظر بعض العواصم الغربية، أبرزها فرنسا، إذ استُبدل الحوار الدبلوماسي بالهجوم السياسي.

ورأى يوسي فيرتر، المحلل السياسي في "هآرتس"، أن "رحلة ترامب التي استغرقت أربعة أيام إلى السعودية وقطر والإمارات شكّلت، بلا شك، الأسبوع الدبلوماسي الأكثر صدمة لحكومة نتنياهو منذ تشكيلها"، وادّعى المحللون الإسرائيليون أن السعودية اشترت مكانتها الجديدة أمام ترامب بالمال، في حين أن إسرائيل أضاعت مكانتها التقليدية التي كانت تستند في السابق إلى "القيم المشتركة"، واعتبروا أن نتنياهو داس على هذه القيم في تعامله مع إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، ولم يقدّم أي بديل أو رؤية واضحة أمام ترامب.

قد تُلامس هذه التحليلات ومقالات الرأي شيئاً من الواقع، إلّا أنها لا تخلو من المبالغة في الوصف والاستنتاج. كما أنها تعبّر في جوهرها عن منطلقات استعلائية تفترض بأن على إسرائيل أن تحتكر العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة في المنطقة، وأن تتمتع بمكانة خاصة وعلاقة مميزة لا تُمنح لأي دولة أخرى، وهي مكانة يُفترض أن تُسخَّر حصرياً لخدمة إسرائيل ومصالحها، بما يضمن استمرار هيمنتها الإقليمية. وادّعت هذه التحليلات أن الخلل الأساسي في المرحلة الراهنة يكمن في سياسات نتنياهو. بطبيعة الحال، لا مكان في هذه الرؤى لمراجعة جوهرية لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، أو لتوسيع الاستيطان، أو للتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني، كما لا يُمنَح أي اعتبار لحجم الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل حتى الآن في حرب الإبادة على غزة، فبرأيهم، يكفي أن يُغيّر نتنياهو سياساته، وأن يقبل بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، كي تُعاد صياغة العلاقة مع الإدارة الأميركية، وتستعيد إسرائيل "مكانتها الطبيعية" في المنطقة.

تجاهل التاريخ

تتجاهل غالبية التحليلات الإسرائيلية وجود علاقات تاريخية متينة، قوية واستراتيجية بين الإدارات الأميركية المتعاقبة والسعودية، فكما أوضح المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي في كتابه "وسطاء الخداع: كيف قوّضت الولايات المتحدة السلام في الشرق الأوسط"، فإن العلاقات الأميركية ــ السعودية تقوم على مصالح استراتيجية متبادلة، من أبرزها ضمان تدفق النفط إلى الغرب، مقابل دعم الأنظمة الخليجية في مواجهة التهديدات الإقليمية.

يُعاقَب سكان غزة اليوم على خلفية إطلاق سراح أسير إسرائيلي-أميركي بواسطة مفاوضات بين حماس وأميركا

هذا التحالف القائم على المصالح لم ينشأ في الأشهر الأخيرة مع عودة ترامب، ولا نتيجة لحاجته إلى استثمارات ضخمة في الاقتصاد الأميركي، بل هو تحالف متجذر منذ عقود. فمنذ توقيع المعاهدة الأميركية ــ السعودية الأولى (اتفاق كوينسي) بين الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت، بعد محادثات أجريت على متن الطراد الأميركي "كوينسي" في مياه البحيرات المرة في قناة السويس، في فبراير/شباط 1945، حصلت الولايات المتحدة على امتياز حصري للتنقيب عن النفط وإنتاجه في السعودية، مقابل التزامها بحماية العرش السعودي. ومنذ ذلك الوقت، تغيّر شكل المنطقة العربية، وأصبحت خاضعة للهيمنة الأميركية المباشرة (كما يذكّرنا الزميل رامي منصور في مقالته المنشورة على موقع "عرب 48" بتاريخ 12 مايو/أيار الحالي). بهذا المعنى، تتجاهل التحليلات الإسرائيلية وجود علاقات استراتيجية دائمة وثابتة بين الولايات المتحدة ودول الخليج، وهي علاقات لا تخضع بالضرورة لرغبات إسرائيل أو إملاءاتها. وربما هذا ما يفسر الرد الإسرائيلي الحاد على زيارة ترامب لدول خليجية، بصيغة توسيع الهجوم والقتل والدمار في غزة.

إسرائيل تنتقم مرة أخرى من سكان غزة

التغيّر في تعامل ترامب مع نتنياهو، لم يؤثّر حتى الآن جدياً على مجريات الأمور على أرض الواقع، فما تزال إسرائيل ترفض التقدّم في المفاوضات مع حركة حماس، وتعارض أي اتفاق يمكن أن يؤدي إلى وقف دائم لحرب الإبادة على قطاع غزة. وفي الأيام الأخيرة، صعّدت إسرائيل من هجومها الإجرامي على قطاع غزة ما أسفر عن مقتل مئات الفلسطينيين، بذريعة "زيادة الضغط" على حركة حماس لحملها على قبول شروط إسرائيل لوقف مؤقت لإطلاق النار. يبدو أن الحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسها نتنياهو والمؤسسة العسكرية، غير راضية فعلاً عن مواقف وتصرفات ترامب الأخيرة، فجاء ردها على شكل تصعيد واسع في القتل والدمار، مع التهديد باجتياح بري شامل لقطاع غزة واحتلاله والبقاء فيه.

تسعى إسرائيل، من خلال تكثيف القصف والتدمير، إلى الانتقام فعلياً من الاتفاق الذي جرى بين حركة حماس والإدارة الأميركية، وإلى توجيه رسالة مزدوجة: الأولى لحركة حماس مفادها أن نتيجة أي تفاهم منفرد مع واشنطن ستكون كارثية على سكان غزة، والثانية للداخل الإسرائيلي لتأكيد أن هذه التفاهمات لن توقف آلة القتل الإسرائيلية، ولن تغيّر من نهج إسرائيل أو سياساتها.

يُعاقَب سكان غزة اليوم على خلفية إطلاق سراح أسير إسرائيلي-أميركي، بواسطة مفاوضات مباشرة بين حماس والإدارة الأميركية. وفي المقابل، تُظهر إسرائيل أن الإدارة الأميركية قادرة على التوصل إلى اتفاقات مباشرة مع حماس، لكنّها غير قادرة على فرض وقف لإطلاق النار أو إرغام إسرائيل على التوصل إلى اتفاق لا يتماشى مع شروطها. وأشارت التصرفات الإسرائيلية إلى أنها ماضية، حالياً على الأقل، في تنفيذ مخططاتها بغضّ النظر عن أي تفاهم بين حركة حماس والإدارة الأميركية، أو عن تصريحات ترامب، أو عن أي تفاهمات يجري التوصل إليها مع الدول الخليجية.

مغامرة إسرائيلية يدفع ثمنها أهل غزة

إعلان الحكومة الإسرائيلية توسيع الحرب على غزة يوضح أنها تتجاهل الأصوات المتزايدة في المجتمع الإسرائيلي المطالبة بالتوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى، بدلاً من توسيع الحرب، خوفاً على سلامتهم، كما تتجاهل التحذيرات المتكررة من أن عملية "عربات جدعون" لن تؤدي سوى إلى مزيد من القتل والدمار، دون تحقيق الأهداف المُعلنة المتمثّلة في القضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى. كذلك، تُغفل الحكومة الإسرائيلية التحذيرات من أن استمرار هذا النهج سيزيد من عزلة إسرائيل على الساحة الدولية، وسيُفاقم النقد الموجّه لها، خاصة في أوساط الدول الغربية. والأهم من ذلك، أنها تتجاهل الإشارات، ولو الخجولة حتى الآن، الصادرة عن الإدارة الأميركية، والتي تدعو إلى إنهاء الحرب على غزة.

لا يمكن التنبؤ بنتائج هذه المغامرة التي تغذّيها مشاعر الغضب والاستياء الإسرائيلي، وتعكس رغبة في الانتقام. وقد يشكّل هذا التصعيد مقدّمةً لاستباق ضغط أميركي جدي للتوصّل إلى اتفاق لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، يسعى نتنياهو من خلاله إلى تخفيف أي ضغط سياسي داخلي، أو إنّه فعلاً تمهيد لتوسيع الهجوم على قطاع غزة، لكنّ المؤكّد حتى الآن أن الثمن الباهظ لهذه السياسات يدفعه سكان غزة، الذين يُقتلون يومياً تحت وطأة حرب لا تهدأ.

Read Entire Article