ARTICLE AD BOX
البحث عن قبرٍ يُدفن فيه لاجئ إلى بلدٍ غير بلده يكاد يتساوى وبحثه عن مكانٍ يُقيم فيه، بعد اضطراره إلى مغادرة بلده، بسبب حربٍ أو نزاعٍ. المأزق الأصعب والأخطر أن يكون اللاجئ سورياً، وبلد الإقامة القسرية لبنان، الذي (لبنان) يعاني مأزقاً أخلاقياً (لن يقلّ أهمية عن مآزقه المختلفة)، يتمثّل في التعالي والتنمّر والعنصرية والمطاردة والشتم والتضييق والتسلّط، وهذا كلّه يُمارَس بكثرة منذ اندلاع الحرب الأسديّة ضد شعبٍ وبلدٍ واجتماع وعمارة، على الأقلّ (هذا يحصل ضد فقراء لا ضد تجار ورجال أعمال وأصحاب رساميل).
يُشكّل هذا (البحث عن قبرٍ) نواة أساسية لـ"إلى أي ترابٍ أعود؟" (2025، 60 دقيقة)، للّبنانية غنا عبّود، الفائز بجائزة Lunes D’Or مناصفة مع "الطريق 104" للروسية أرينا أدجو، في الدورة الـ12 (10 ـ 15 إبريل/نيسان 2025) لـFestival 7eme Lune. فرغم بؤس حياته اليومية، يجهد اللاجئ السوري عناد خليل (60 عاماً)، المُقيم في خيمةٍ مع أفراد عائلته في البقاع اللبناني، في البحث عن قبرٍ، فالعودة إلى بلده غير معروفٍ موعدها، أو ربما عناد نفسه غير راغبٍ فيها. بحث كهذا يكشف، مواربة، حاجة لاواعية (!) إلى خلاصٍ من جحيمٍ أرضيّ، فلعلّ في الموت راحةً وسكينة.
البحث عن قبرٍ، في "إلى أي ترابٍ أعود؟"، المعروض في الدورة الثامنة (27 إبريل ـ 3 مايو/أيار 2025) لـ"مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة"، مفتوح أيضاً على خلل العلاقة اللبنانية السورية، وكيفية التعامل اللبناني مع السوريّ، وغياب أفقٍ واضح لحياة مضطربة، وتشنّج لبناني يُقابله قهر سوري، وتفكير لبناني (فرداً وجماعة وسلطات) إزاء مصائب تحلّ باللبناني وبلده، واللجوء السوري لن يكون سببها الوحيد، ولا سببها الأول. ومع أنّ اللبنانية صبحية الميزر (40 عاماً)، ابنة شيخ عشيرة وأم ثكلى، تحاول مراراً إيجاد حلول لمشكلة كهذه، تبدو في لحظاتٍ كأنّها غير قادرة، بشكلٍ ما، على التحرّر من لبنانيتها، إذ تُدرك المصائب المختلفة، وتعرف أنّ البلد منهارٌ، والصدّ اللبناني لحقوق السوري (يقول عناد لأحد رجال الدين إنّ "إكرام الميت دفنه"، لكنّ لبنانيين كثيرين غير معنيّين بهذا) "تُبرّره" ضمناً، مع سعيها الدائم إلى حلّ.
غنا عبّود، بعد بحثٍ وإعداد تُجريهما مع محسن شعبان، ترافق عناد وصبحية في تلك الرحلة القاسية والمُقلقة، والفاضحة نمطاً أخلاقياً وثقافياً وتربوياً يصنع بيئات لبنانية. وعبّود تُصوّر الحساسيات كلّها (مدير التصوير: بول سيف، مساعد كاميرا: محمد خطيب) بتناسق بصري، يعتمد أسلوباً تلفزيونياً (إنتاج "الجزيرة الوثائقية") ومتطلّباته، لكنّه يستفيد من هامش سينمائي، فتكون لقطات صامتة عدّة أفضل تعبير عن ذاتٍ وانفعالٍ وتفكيرٍ في الحاصل الآن، وفي ما سيحصل لاحقاً. والهامش مبسّط باشتغاله، فالأهمّ إبراز المأزق الأساسي، الذي بإبرازه يفضح حالاتٍ، ويقول مشاعر.
لحظتان اثنتان مؤثّرتان، رغم تناقضٍ كبير في موقف كلّ منهما وقناعته، يُمكنهما اختزال "إلى أي ترابٍ أعود؟": فصبحية ستفتح قبر ابنها محمد ناصر بدر (توفّي عام 2014)، لتدفن فيه السوري خالد بندر الدوحان (2015 ـ 2017). والمؤثّر أيضاً كامنٌ في إشارتها إلى قبرين آخرين لابنتيها زينب وصفا (لا ظهور لشاهدي القبرين على الشاشة). أمّا عناد، فيستمع إلى شابٍ سوري يروي له محاولاته، رفقة ناسه وأقاربه، لإيجاد مدفنٍ يليق بعجوزٍ، بما فيها من صعوبات ومواجهات، أخطرها وأسوأها ما يقوله مالك أرضٍ يوافق، أولاً، على منحهم مساحة ضيّقة للغاية، يصعب فيها إنشاء قبر: "إذا أعجبكم العرض فليكن، وإلاّ فارموا (الجثة) للكلاب".
هناك لحظات قاسية أخرى: أحد أبناء عناد يقول، بغضبٍ شبه مكتوم، إنّه يعمل 12 ساعة يومياً لقاء 10 آلاف ليرة (لبنانية) فقط، والدولار الأميركي يُساوي (حين التصوير) 45 ألفاً. لبناني يتعنّت في رفض منح عناد مساحة لقبر، ويتشدّد في ذلك، قائلاً إنّه يلاحق مراراً سوريين يتسلّلون ليلاً إلى مدافنه لدفن موتاهم، ما يدفعه إلى إقامة سياج حول الأرض، وتكليف أحدهم بحراسته. لكنّ اللبناني يقول للاجئ السوري إنّ المدافن له ولعائلته، والمقابر مليئة ببعضهم/بعضهن، والأخرى تنتظر قادمين/قادمات.
هذا غير حاجبٍ قهراً يعانيه سوريون وسوريات، وعجزاً لبنانياً عن تلبية حاجة ملحّة، والعجز يُعبَّر عنه بمنطق أحياناً، لكنْ بتعالٍ وقسوة غالباً. الهجرة غير الشرعية حلٌّ، بدلاً من العيش في الذلّ والتسلّط (يقول شاب سوري). في تلّة، يُدفن موتى سوريون، وعناد، الذي يتمشّى بين صخور قليلة فيها، يبدو كهلاً أكبر من عمره، وتائهاً رغم حكمته المضروبة بحصار خانق. سائق سيارة أجرة سابق، يتخلّى عن المهنة بعد عيشه اختبارات خطرة في الطريق بين لبنان وسورية مع اندلاع الحرب الأسدية، وتفاقم عدد المليشيات.
غنا عبّود، بمرافقتها عناد دائماً وصبحية غالباً، تفتح أكثر من منفذٍ إلى أهوال الحياة. اشتغالها البصري المبسّط يُتيح متابعة هادئة لمأزق عملي (لا قبور للسوريين/السوريات في هذه الأرض)، يكشف مجدّداً مأزقاً أخلاقياً وعجزاً فعلياً عن إيجاد حلّ، في غياب السلطة الرسمية، وانفضاض مرجعيات دينية إسلامية، بعضها القليل يُقدّم حلاً ولو مؤقتاً.
"إلى أي ترابٍ أعود؟" شهادة إضافية عن قسوة لجوء، وبشاعة أفراد، وجهد قليل في إيجاد حلّ، رغم صعوبة ذلك.
