إلى (المونسنيور) منصور لبكي: العزلة أهوَن من السجن

8 hours ago 1
ARTICLE AD BOX

أبتِ الكريم. أدعوك أبتِ لأني لم أعتد أن أناديك منصور من دون لقب، فأنت المونسنيور، والكاهن الذي تربينا ليس على تراتيله فحسب، بل على صوته العذب الذي ينساب إلى النفس فيساعد في ارتقائها. وما زلت إلى اليوم أفتش عن تلك التراتيل الحلوة، عبر "يوتيوب"، فأسمعها مجدداً، وأرددها، لأنها يمكن أن تقودني مجدداً إلى الطفولة، وحضن العائلة، ودفء الكنيسة، وذكريات المدرسة التي لا تبدو دائماً لطيفة.

 

أبتِ الكريم، تعرف تماماً مدى التقدير الذي نكنّه لك، وقد دافعنا عنك مراراً عندما تعرضتَ للتشهير والاتهام، وقد خطّت زميلتنا الراحلة الطيبة الذكر مي منسى، أبهى الكلمات، وأرقّ العبارات، دفاعاً عنك وعن حقك في عرض وجهة نظرك كاملة، وصولاً إلى حقيقة ما. وتعرضنا لحملات اعلامية ومجتمعية عبر وسائل التواصل الاجتماعي بسبب تلك المواقف، واعتبرنا مناصرين للجلاد على حساب الضحية.

 

دعوة تضامناً مع المونسنيور منصور لبكي.

 

وأذكر، وتذكر حتماً، أني في 27 أيار 2014 كتبت لك مقالة جاء فيها: "هذه الرسالة بمثابة اعتذار منك ومن مقامك ومن الإنسان الكبير الذي فيك والذي تحمّل المشقات في عيش الكهنوت كما تحمل المهانة في الحملة الجائرة التي خيضت ضده. أعتذر منك عن أصدقائك اللبنانيين الذين صدقوا الشائعات ضدك وبعدوا عن رؤياك، فلم يجهدوا في التحقيق بما سمعوه، أو السؤال عن حقيقة ما أشيع. أعتذر منك عن آخرين لم يكونوا من أصدقائك لكنهم عرفوا صلواتك وألحانك وخدماتك الجليلة للكنيسة والمجتمع، وإذ بهم ينسون كل الماضي الجيد والناصع الذي عشته وصنعته، فحوّلوك في أحاديثهم، بين ليلة وضحاها، مجرماً. أعتذر منك عن أولئك الذين يرتكبون المعاصي كل يوم، وإذ بهم يفتشون عن خبر ليضجوا به، ويسيئون إلى المقامات، والأهم إلى كرامات الناس، وهم يتخفون في كل لحظة خلف كراماتهم المجروحة". (انتهى الاقتباس)

 

هذا غيض من فيض ما كتبتُ أنا وكتبه غيري، إذ لم نصدّق في حينها ما اتُهمتَ به، ورفضنا أن يلحقَ بك ظلم، وأن تتم الإساءة إليك على هذا النحو، وأن يصدر المجتمع والإعلام أحكامهما عليك قبل إدانتك رسمياً.

 

لكن الذي حدث لاحقاً، أن الفاتيكان، وهو السلطة الكنسية العليا، أصدر حكماً نشرت تفاصيله صحيفة "لا كروا" الكاثوليكية الفرنسية، وثُبّت الحكم الكنسي بالاستئناف عام 2013، وقضى، مع "مراعاة سنّه"، بعقوبة "حياة من الصلاة والتكفير عن الذنب في مكان منعزل، مع حظر أي اتصال بالقاصرين، والحرمان من المناصب الكنسية كافة، ومن إحياء القداديس، ومن تقديم أي توجيه روحي أو المشاركة في أحداث عامة، أو التصريح لوسائل الإعلام أو الكلام مع الضحايا". وأتبعته لاحقاً بقرار "إعادته إلى الحالة العلمانية"، أي إخراجك من سلك الكهنوت، ونزع الرتبة والتسمية والصلاحيات منك.

 

وعام 2016، صدرت مذكرة اعتقال دولية عن القضاء الفرنسي، بناء على متابعة القضية والتواصل مع عدد كبير من الضحايا الذين أدلوا بشهاداتهم أمام المحكمة، إلا أن لبنان رفض تطبيق الاعتقال وتسليمك إلى فرنسا. وقد بتّ ممنوعاً من السفر إلى معظم دول العالم، خوفاً من الاعتقال.

 

لا يمكن إنسانا عاقلا أن يرفض كل الأحكام الصادرة سواء في الفاتيكان، أو في فرنسا، (وليس في لبنان) ليصدق أن "مؤامرة كونية" حيكت ضدك كما يدّعي محاميك. وإذا افترضنا أن مؤامرة نجحت، فكيف يمكن العودة عنها، وفضحها، بأخبار لا تصدق، عن قرصنة رسائل إلكترونية تؤكد حقيقة التآمر عليك.

 

الموضوع حساس لأن المتهم رجل دين، وبئس هذه البلاد (لبنان خصوصا) التي تحمي رجل دين سارقاً أو مارقاً أو متحرشاً أو مغتصباً، يحتمي بعباءته، وتمنع عنه المحاكمة، كما سائر المواطنين. وهذا أمر يتكرر في لبنان.

 

صحيح أن لا دور لنا في الإدانة أو التبرئة، بل لا صلاحية، لكن لا يمكن تجاوز الموضوع إذا كان يتعلق برجل دين، ما دام هناك محاكم مختصة حقّقت وحكمت، بل علينا قبول الأحكام والعمل وفقها. وعليه، فإن المحاكم دانت منصور لبكي، ولا يمكننا عدم قبول أحكامها بذريعة التآمر.

 

المحكمة الفاتيكانية قد تخطئ وقد تصيب، لأن أعمالها من صنع البشر، وكذلك المحكمة الفرنسية، ولكن في المقابل لا يمكن الاعتداد بمن يسمّون أنفسهم "أصدقاء منصور لبكي" وهم ليسوا من الضحايا بالتأكيد، ولا يفهمون شعور الضحية وذويها، ويرفضون الأحكام ويشككون فيها.

 

الملف طوي بأحكام قضائية لم ينفّذها لبنان، وحافظ لك على كرامتك، فلم يسلّمك إلى فرنسا، وإلا لكنت اليوم تقبع في السجن، لكن المشكلة "أبتِ"، في أنك تعيد نبش القضية، وتسليط الضوء على نفسك، من خلال تعمّدك الظهور الإعلامي عبر الشاشة والصحيفة، وتنظيم لقاء تضامني معك في دارتك (تم الإعلان عن إرجائه بعدما أثار ضجة كبيرة)، لتؤكد من خلالها أنك لا تزال تتمتع بحصانة رجال الدين التي تجعلك فوق القانون، بل خارجاً عنه.

 

اللجوء إلى القانون للدفاع، يفترض أولاً تنفيذ أحكام القانون والقرارات القضائية، وثانيا العمل من ضمنها للاستئناف والتمييز.

 

قد يكون القرار الأول للفاتيكان (2013) خير علاج، إذ قضى، نظراً إلى "مراعاة سنّك"، بعقوبة "حياة من الصلاة والتكفير عن الذنب في مكان منعزل". العزلة، والابتعاد عن الإعلام، والتوقف عن ممارسة الأسرار الكنسية، هي الدواء لمن بلغ هذه السنّ، وهذه الحالة من الشبهات والتهم، فلا يطالبنّ أحد بتصديقه وحيداً وتكذيب العالم، والاستمرار في نكء الجراح.

Read Entire Article