إيران في مخيال رجل الشارع الأميركي... شيطنة الرموز

1 week ago 4
ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">تشكل وعي جمعي لدى المواطن الأميركي التقليدي والأكاديمي والسياسي يقوم على رؤية العالم من منظار القوة والسيطرة (أ ف ب)</p>

تمثل الصورة الثقافية للدول إحدى الأدوات الناعمة لتشكيل الإدراك العام عبر الأجيال، في الحالة الإيرانية شهدت العلاقة مع الوعي الأميركي تحولات متباينة بين الشيطنة والتغييب والفضول الثقافي، ومع تسارع التغيرات الإقليمية والدولية بات من اللافت رصد تبدل معادلات الصورة الإيرانية في الوجدان الأميركي، بما يحمله ذلك من مؤشرات أوسع على مستقبل التفاعلات بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة.

كثيراً ما شكلت منطقة الشرق الأوسط بإرثها المعقد وتركيبتها الجيوسياسية الفريدة، صورة مثقلة في الوعي الأميركي تتأرجح بين الاستشراق الموجه والخاضع في حالات كثيرة للخلفية الثقافية والشيطنة السياسية، ومن بين دول هذه المنطقة تبرز إيران كحالة خاصة في الإدراك الأميركي، ليس فقط بفعل الصراعات النووية والخطابات العدائية، بل لكونها تتقاطع مع تاريخ طويل من سوء الفهم الثقافي والانفصال الرمزي بين الشرق والغرب. وفي محاولة لقراءة المسافة الحادة بين الجانبين، ستبرز كثير من المعطيات التي شكلت الصورة الذهنية وجسدتها كواقع عملي.

منذ الحرب العالمية الثانية ومع تصاعد دور أميركا كقوة عظمى، تشكل وعي جمعي لدى المواطن الأميركي التقليدي والأكاديمي والسياسي يقوم على رؤية العالم من منظار القوة والسيطرة. هذا المواطن تربى على سرديات "الكاوبوي المنتصر"، الذي جاء لينقذ العالم من همجية الآخر، وعلى تغييب متعمد لحقيقة "الهندي الأحمر" الذي أبيد لصالح الحلم الأميركي. في هذا السياق تتكون صورة الشرق الأوسط وتتشكل صورة إيران ضمنه، أي ضمن كل هذه السياقات، وتصنيفها بهوية مسبقة مؤطرة كبؤرة اضطراب لا تفهم إلا بلغة العقوبات أو التدخلات واختزال الثقافة الإيرانية في عناوين الأخبار: "آيات الله" و"الملف النووي" و"دعم الإرهاب"، ويغيب عن ذهنه أن هذا الشعب وريث حضارة فارسية قديمة أقدم مما جرى اختصاره في هذه العناوين. ولكن بنظرة تاريخية على نموذج المثقف الأميركي الذي قد يحمل بعضاً من الحيادية، نجده إلى حد كبير أكثر انفتاحاً نسبياً، لكنه ليس بمنأى عن تأثير السرديات الناعمة التي ترسمها المؤسسات الإعلامية والثقافية، فحتى الجامعات ومراكز الأبحاث التي تتأثر بالتمويل السياسي في الغالب، يظل هناك ما يجعل "القراءة العميقة" لإيران والشرق الأوسط مرهونة بتوجهات معينة. ومع ذلك ظهرت في الأعوام الأخيرة محاولات جادة لدى بعض المثقفين الأميركيين لفهم إيران خارج قفص الأيديولوجيا، أحد أبرز الأمثلة هو المفكر الأميركي ستيفن كينزر الذي ألف كتاب "كل رجال الشاه" وقدم فيه قراءة تاريخية دقيقة لانقلاب 1953 المدعوم من وكالة الاستخبارات الأميركية ضد رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق، كاشفاً كيف تشكلت العداوة السياسية من خيانة تاريخية، وليس فقط من تعارض أيديولوجي.

في الاتجاه المقابل تبرز شخصيات ثقافية إيرانية حاولت مخاطبة الوعي الغربي بلغته، مثل المخرجة الإيرانية مرزيه مشكيني، التي قدمت أفلاماً إنسانية عميقة مثل "اليوم الذي أصبحت فيه امرأة"، التي فتحت نافذة على تعقيدات الحياة في إيران ما بعد الثورة بعيداً من الخطاب السياسي المباشر، مما سمح لجمهور أميركي ودولي أن يلمس إنسانية المرأة الإيرانية لا صورتها النمطية.

لكن هل الثقافة الأميركية قادرة أصلاً على فهم الشرق الأوسط كما هو؟ الحقيقة أنها ثقافة نشأت على مركزية الذات وعلى تفوق سرديتها العالمية، ولذلك غالباً ما تعجز عن فهم المجتمعات التي لا تتحدث بلغتها الرمزية أو لا تعكس تجربتها. فعلى رغم التعدد الثقافي في الداخل الأميركي، إلا أن النظرة إلى الخارج لا تزال حبيسة ثنائية "نحن والآخر". إيران مثلاً ليست فقط "دولة شيعية ثيوقراطية"، بل هي أيضاً مزيج من الشعوب واللغات وتيارات فكرية متصارعة من التيارات القومية إلى الحركات الإصلاحية والعلمانية، ومن لا يفهم هذه الطبقات لن يستطيع أن يقرأ واقعها أو يتنبأ بتحولاتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ما يشكل الصورة الذهنية اليوم ليس فقط الإعلام السياسي، بل القوى الناعمة التي تتسلل إلى الوعي اليومي عبر الأفلام والكتب والمنصات وحتى الموضة. ومن الحقائق الحية والمؤثرة والقائمة هي أن القوى الناعمة الأميركية لا تزال في كثير من الأحيان تقدم الشرق الأوسط وإيران بصورة سطحية أو نمطية. الاستثناءات موجودة، لكنها لا تحدث اختراقاً كبيراً في الوعي الجمعي.

في المقابل بدأت إيران نفسها أخيراً تحاول إنتاج قوتها الناعمة وتصديرها، من خلال سينما تعبيرية وأدب معاصر حاز جوائز وفنانين مبدعين، وفنانات يخترقن المحظور، وموسيقى تنتشر عالمياً، لكن هذه الصورة تواجه تحديين: الأول داخلي يرتبط بالقيود السياسية، والثاني خارجي مرتبط بعدم السماح لهذه الصورة بالوصول إلى الجمهور الأميركي إلا بعد فلترة أيديولوجية.

وعليه، يبقى المستقبل مرهوناً بقدرة الطرفين على كسر حواجز "القراءة الكسولة". لا يكفي أن تقدم إيران نفسها للعالم بلغة المقاومة فقط، بل عليها أن تستثمر في قواها الناعمة بذكاء بعيداً من الأدلجة، وعلى النخبة الأميركية أن تتجاوز عقدة "الكاوبوي" وتنظر إلى إيران لا كخصم استراتيجي فقط، بل كمرآة لتحدياتها الثقافية العميقة.

إن الإدراك الحقيقي لا يتولد من التكرار بل من الصدمة المعرفية، ومن هنا يمكن أن يصبح المثقف الأميركي يوماً ما أكثر قدرة على قراءة الشرق الأوسط كما هو، لا كما يريد أن يراه. فيما إيران وبما تحمله من تناقضات وأصالة وتحولات، تظل اختباراً حاداً لقدرة العقل الأميركي على تجاوز الصور النمطية.

ربما لا تكون هذه المسافة قابلة للردم بسهولة لكن الخطوة الأولى تبدأ بالاعتراف بأن الصورة التي يحملها المواطن الأميركي سواء المواطن التقليدي أم المواطن المثقف، وبما يختزله عن الشرق الأوسط، ليست الصورة الكاملة، وأن هناك دوماً وجهاً آخر للحقيقة ينتظر أن يرى.

subtitle: 
تربى على سرديات "الكاوبوي المنتصر" الذي جاء لينقذ العالم من همجية الآخر وعلى تغييب متعمد لحقيقة "الهندي الأحمر"
publication date: 
الاثنين, مايو 12, 2025 - 21:30
Read Entire Article