الأميركي ويس اندرسون يرسم بالكاميرا ويستنطق اللاوعي

2 days ago 2
ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">المخرج الأميركي ويس أندرسون (صفحة المخرج - فيسبوك)</p>

من فضائل سينما أويس ندرسون، صاحب ال 13 فيلماً، أنها أعادت الاعتبار للحنين على نحو خلاق من خلال الهندسة اللونية في بناء اللقطات والأزياء والموسيقى، والانحياز إلى إشباع الجانب البصري في رسم المشاعر. هنا نحن أمام مصطلح مستقى من المسرح هو "الفرجة"، لكنه يمنح هذا الفضاء دفئاً وعفوية، كأنه يستعيد طفولة غابرة، ويتطلع إلى إنشاء لغة رمزية عبر الألوان. لذا يكثر في أفلام أندرسون اللون الأحمر، لأنه يعادل الحزن الكثيف.

في فيلم "الحياة المائية مع ستيف زيسو" (2004) تعكس قبعة زيسو الحمراء حزنه الشديد على فقدان صديقه ورفيقه إستيبان دو بلانتييه. وفي فيلم "العائلة الملكية تينينباوم" (2001)، نرى تشارلز (بن ستيلر) يرتدي بدلة رياضية حمراء حداداً على وفاة زوجته، وشعور الهجر الذي أحسّ به في طفولته. وفي فيلم "دارجيلنغ المحدودة" (2007)، نرى الأخوين يقودان سيارة حمراء بعد وفاة والدهما، كما لاحظ ذلك مقال نشرته منصة (Curzon) الإنجليزية، الأسبوع الماضي.

وُصف فيلم "المخطط الفينيقي" بأنه كوميدي، مع أنّ هذا التعبير مخلّ ومختزل، فهو أقرب إلى السوريالية المحملة بأنفاس الماضي وعذاباته، ومن شخصياته التي عمّرت ذكريات أندرسون، شخصية "ززا كوردا" المستوحاة جزئياً من والد زوجته اللبناني الراحل، فؤاد معلوف، الذي وصفه، في تصريح لصحيفة "هوليوود ريبورتر" بأنه "شخصية كاريزمية مهيبة".

خرج أندرسون من عباءة المخرج التقليدي، وسلك الدرب الوعر للمخرج المحوِّل، الذي ما زال يلهم السينمائيين، وشركات التسويق، ودور الأزياء، والمؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي. وصار الجمهور يعرف سينما أندرسون قبل أن يرى توقيعه عليها.

شغف المغامرة

الانشقاق الإبداعي يحركه ويغذيه قلق مستعر، وشغف في المغامرة، ما يحيلنا إلى كتاب "كيفما فكرت... فكر العكس" للإنجليزي بول آردن، الذي صدر عن دار الساقي، وترجمته رشا الأطرش. يروي المؤلف حكاية من الألعاب الأولمبية التي نظمت في المكسيك سنة 1968، حيث اعتاد  أبطال القفز العالي الطيران فوق العارضة، جاعلين أجسادهم موازية لها، وسمّيت هذه التقنية "الدحرجة الغريبة".

لكنّ ذلك كان على وشك أن يتغير، حيث قاربَ رياضي غير معروف العارضة المنصوبة على ارتفاع قياسي هو2,24م، بطريقة مغايرة تماماً. انطلق، وبدل أن ينحني بصدره في اتجاه العارضة، أولاها ظهره. رفع ساقيه وانقلب فوق العارضة التي وضعها خلفه.

كان اسمه ديك فوسبيري، وعُرف أسلوبه في القفز بـ"قلبة فوسبيري" التي ما زالت تستخدم حتى اليوم. قفز أعلى من أي رجل، لأنه فكّر بعكس كل من سبقوه.

ويس أندرسون في أفلامه جلها يفكر على نحو يعاكس المألوف، ويفجر الطاقة الرمزية في الصورة واللون والتراتبية البصرية والحركة البطيئة. إنه يرسم بالكاميرا، لذلك يتم استقباله باعتباره نبعاً من الدهشة.

وكنا قد تناولنا أسلوباً سينمائياً ينتسب إلى الفضاء نفسه يجسده تشارلي كوفمان، لاسيما في فيلمه (i'm thinking of ending things)، فكلا المخرجين أندرسون وكوفمان، يركز على الطاقة الرمزية في المعاني؛ الأول لا تقول شخصياته إنها حزينة، لكنّ سياقاً رُسم لها بأناقة ودقة يؤكد أنها تعيش الحزن، بل الكَبَد. أما الثاني فيوغل أكثر في الرمزية والتجريد، ويلجأ إلى الاستنطاق النفسي للذات، من خلال قراءة اللاوعي، وتسليط الضوء على المشاعر المكبوتة التي أفاض في تجليتها فرويد.

قيل إنّ أفلام أندرسون تشبه "القراءة على ضوء مصباح يدوي تحت أغطية اللحاف ليلاً"، لأنها تبعث حنيناً يتصدع أمام ثقل الحاضر، وهذه رسالة يلتقطها كوفمان محولاً الأفكار الهاجعة في القيعان المنبوذة في التجربة الشخصية، إلى حركة مجسَدة على الشاشة، حتى لو اختلط الحلم بالكابوس والراهن بالفانتازيا. إنّ الخيال في سينما بهذه الحساسية هو جنة المطرودين من جحيم الواقع.

أفلام تفكر في الافكار

كوفمان ينسف هراء هوليوود، ويقدم أفلاماً تفكر في الأفكار. لذلك يراها بعضهم صعبة ومعقدة وغير مفهومة. لعل المخرج لا يتوخى الإفهام بمقدار ما ينشد الدهشة الآتية، من خلال مزج الواقع والفن والخيال بالطبيعة المعقدة للحياة والبشر.

أندرسون ينسف التصورات على طريقته. إنه يسعى إلى سكب شيء من الفكاهة في قلب الألم. لذا تذهب الأحكام المتسرعة إلى تصنيف بعض أفلامه بأنها "كوميدية". لعل الإضحاك في بعض الأفلام نابع من السخرية أكثر من الفكاهة، لأنّ أعماله مؤثرة عاطفياً، وتثير الكثير من الشجن، خصوصاً حينما يمتزج الحزن مع الهجر، وتفكك الأسرة، والتنافس بين الأشقاء، وفقدان البراءة. أو حين يحل الزمن الحديدي بقبضته غير الرحيمة، ويضرب كل شيء، ويهدم متاحف الخزف الرقيقة في دواخلنا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن الصعب تصنيف أفلام أندرسون بأنها شعبية أكثر من أفلام كوفمان النخبوية والمعقدة. هذا حكم سريع ومتغطرس. السؤال: هل ما يصنعانه يصب في إطار السينما الخلاقة في جانبها الإبداعي الذي يبتكر عالماً يحترم الحواس، ويوقر الذائقة؟

في لقطة لا تنسى في فيلم (i'm thinking of ending things)، وندر أن تتكرر في السينما لصعوبة تنفيذها بصرية، ولأنها أيضاً تتحدى فكرة الزمن والحركة في الوقت ذاته، ما عبر عنه كوفمان بتاريخ النبذ والنسيان والتجاهل الذي عانى منه بطل فيلمه "جيك" الذي عاش حياته مع إحساس عميق بانعدام الثقة بالنفس وفقدان التقدير. ذهب كوفمان في آخر لقطات فيلمه ليصنع معادلاً رمزياً مجسَداً لهواجس "جيك" وتمزقاته، فأظهره (وربما هذا ما يعتقد أنه يستحقه) على هيئة رجل عجوز، يتسلم جائزة عن أدائه الدرامي، وحالماً بجائزة نوبل، فيتم تصميم مشهد مستقى من فيلم عقل جميل (A Beautiful Mind) للمخرج رون هوارد (2001).

كاميرا كوفمان اخترقت عقل "جيك" وقلّبت انفصاماته وشكوكه، كأنها تقول ربما يكون "جيك" في نظر الآخرين لا شيء، لكنه في نظر نفسه كل شيء.

المغامرة التي يسلكها كوفمان وأندرسون في أفلامهما تنطلق من مفهوم "كيفما فكرت... فكر العكس"، لذا يقفزان على طريقة "ديك فوسبيري" فيبهران ويكسبان الرهان.

subtitle: 
سينما لا تغيب عنها مقولة  المفكر الإنجليزي بول آردن "كيفما فكرت... فكر العكس"
publication date: 
السبت, مايو 17, 2025 - 12:45
Read Entire Article