الاختلاس في الأردن: بين ضغط المعيشة وثغرات القانون

1 week ago 6
ARTICLE AD BOX

<p>مبنى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد في الأردن (اندبندنت عربية - صلاح ملكاوي)</p>

في ظل تفاقم الأزمات المعيشية وارتفاع كلف الحياة لم تعد الضغوط الاقتصادية مجرد أرقام جامدة، بل تحولت إلى عبء يومي يثقل كاهل الأفراد.

في هذا السياق ثمة خلاف حول ما إذا كانت اتسعت رقعة ظاهرة الاختلاس المالي بصورة لافتة أم لا، حيث يجد بعض الموظفين أنفسهم بين مطرقة الحاجة وسندان القوانين، فيلجأ بعضهم تحت ضغط الوضع المعيشي إلى استغلال مناصبهم ووظائفهم كمنفذ للهرب من ضيق الحال، إلا أن هذه الظاهرة على رغم عدم قانونيتها تكشف عن جانب إنساني مهمل في المعادلة، وتكشف أيضاً عن سؤال ملح حول تبعات ضعف العدالة الاقتصادية على الدولة والمواطن.

1000 مخالفة مالية

في عام 2019 طالب العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني حكومته بـ"كسر ظهر الفساد"، ومحاربة كل صوره فيما رصد ديوان المحاسبة الأردني، وهو مؤسسة رقابة مالية رسمية، نحو 1000 مخالفة مالية في العامين الأخيرين، منها حالات اختلاس موثقة، بأرقام تصل إلى ملايين الدنانير، ويدور الحديث هنا عن عشرات القضايا التي تتعلق باختلاس أموال عامة وخاصة، أبرزها في البلديات والوزارات والجامعات الرسمية.

وفقاً للبيانات الرسمية المتاحة ثمة قضايا بارزة أثارت اهتمام الرأي العام الأردني ضمن الجرائم الواقعة على الإدارة العامة وقضايا الرشوة واستثمار الوظيفة.

وفي حادثة لافتة قامت محاسبة تعمل في دائرة الآثار العامة باختلاس مبلغ يقدر بمليون و62 ألف دينار أردني (87.4 ألف دولار)، وفي عام 2022 قررت محكمة بداية عمان إعفاء موظف اختلس 83 ألف دينار (117 ألف دولار) من العقوبة، نظراً إلى اعترافه بالجريمة قبل اكتشافها، أما في عام 2023 فبرزت قضية اختلاس كبرى كان أبطالها ستة موظفين وبقيمة 13 مليون دينار (18.3 مليون دولار) يعملون في البريد.

في العام الحالي 2024 تم توقيف مدير جمعية تعاونية إسكانية بعد تجاوزات مالية بقيمة قاربت مليون دولار ووجهت له جناية الاختلاس واستثمار الوظيفة وهدر المال العام، كما تم توقيف أحد موظفي وزارة الأوقاف بجناية الاختلاس من طريق التزوير، وفي قضية أخرى أوقف موظف في أحد المراكز الطبية وصدر قرار بسجنه بالأشغال الموقتة خمس سنوات لاختلاسه مليونا و25 ألف دينار (1.44 مليون دولار).

قبل ذلك بأسابيع أوقف محاسب بعدما اختلس مبلغاً يقارب 100 ألف دينار (141 ألف دولار) خلال عام من إيرادات البلدية دون توريدها لحسابها.

هل العقوبات رادعة؟

يعرف الاختلاس في القوانين الأردنية بأنه استيلاء الموظف العام على المال العام الذي في عهدته أو تحت مسؤوليته، سواء بالاستيلاء المباشر أو بتحويل المال لمصلحته الشخصية.

ووفقاً لقانون العقوبات الأردني يعاقب كل موظف عام يختلس أموالاً عامة بالأشغال الشاقة الموقتة وبغرامة تعادل قيمة ما اختلس.

وتشير المادة 174 من قانون العقوبات الأردني إلى أنه في حال اقتران الجريمة بالتزوير أو استخدام وسائل احتيالية، تشدد العقوبة لتصل إلى الأشغال الشاقة لمدة لا تقل عن خمس سنوات، إضافة إلى الغرامة.

ويشير الباحث علاء الشوابكة من جامعة الشرق الأوسط الأردنية مع تصاعد الجدل في الأردن حول قضايا الفساد والمال العام إلى ضرورة الإجابة عن سؤال مفاده هل تصنف كل حالات الاستيلاء على المال العام على أنها اختلاس؟ أم أن هناك فرقاً جوهرياً بين الاختلاس وإساءة الائتمان، وهو ما قد يغير مسار المحاكمة والعقوبة، داعياً إلى إعادة ضبط المفاهيم القانونية لضمان العدالة الرادعة.

ويوضح الشوابكة أن جريمة الاختلاس تتم من قبل موظف عام، استولى على مال بصفته الرسمية، أي إن المال كان بحوزته بسبب وظيفته، بينما ترتكب إساءة الائتمان عندما يؤتمن شخص (ليس بالضرورة موظفاً عاماً) على مال بموجب عقد أو علاقة قانونية ثم يخونه.

يضيف الشوابكة أن الخطورة تكمن في أن إساءة الائتمان تحال إلى محكمة الصلح وتعامل كجنحة بعقوبة أخف، بينما الاختلاس يحال لمحكمة الجنايات الكبرى، وتعاقب بعقوبات مشددة تصل إلى الأشغال الشاقة، وأن تداخل المفهومين في الواقع العملي أدى إلى خلط قضائي وتساهل في بعض القضايا.

ويعتقد الشوابكة أن العبرة في جرائم الاختلاس ليست في إعادة المال، بل في الردع، وأن واحدة من أبرز ثغرات القانون الأردني هي أن بعض المدانين في قضايا المال العام يستفيدون من تخفيف العقوبة أو إعفائها بالكامل بمجرد إعادة المبلغ المختلس، وهو ما يفسر أحياناً شعور الرأي العام الأردني بأن هناك "مساومات" في ملفات الفساد.

أسباب اقتصادية اجتماعية

يعزو مراقبون تزايد حالات الاختلاس المالي في الأردن في السنوات الأخيرة إلى عدة أسباب اجتماعية واقتصادية متشابكة، من أبرزها تدهور الأوضاع المعيشية وارتفاع كلف الحياة، والغلاء المستمر، وجمود الرواتب، وكذلك ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، فضلاً عن اتساع الفجوة بين الطبقات، وهو ما يعمق الشعور بالظلم، ويؤدي إلى تبريرات نفسية واجتماعية للاختلاس لدى بعض الموظفين، بينما يراه آخرون نتيجة حتمية لضعف المساءلة وآليات الرقابة الداخلية في بعض المؤسسات، لكن ذلك لا ينفي وجود أسباب اجتماعية وثقافية كضعف الوازع الأخلاقي والرقابة الذاتية وتراجع القيم المجتمعية المرتبطة بالنزاهة، كما أن الأسباب المؤسسية من ترهل في بعض مؤسسات القطاع العام، وضعف الشفافية فيها وغياب العقوبات الرادعة خلقت بيئة خصبة للاختلاس.

يرى الباحث عبدالرحمن مهيدات أن الفساد الاقتصادي، وعلى رأسه الاختلاس لا يمكن عزله عن الإطار العام للأزمات التنموية وغياب العدالة الاقتصادية والفجوة المتزايدة بين الأدوار الرسمية والحاجات الشعبية، وهو نتيجة حتمية لضعف مؤسسات الرقابة وغياب المساءلة الفاعلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يصنف مهيدات الاختلاس ضمن "الفساد المالي النشط"، حيث يستغل الموظف العام موقعه للاستيلاء على المال العام، ويشمل أنماطاً مختلفة كإساءة استخدام الموارد العامة، وتزوير العقود والمشتريات، واستخدام النفوذ للحصول على منافع شخصية، وإخفاء الإيرادات العامة أو تحويلها لحسابات خاصة.

ويرى الباحث الأردني أن غياب المنافسة ووجود امتيازات احتكارية في بعض الدوائر يجعل البيئة مهيأة للاختلاس، وأن كلفة ذلك اقتصادياً تنعكس على شكل خسائر مباشرة في الإيرادات العامة، وهدر في المال العام، وتعطيل المشاريع وانعدام الجدوى الاقتصادية لها.

أما اجتماعياً فإن جرائم الاختلاس تؤدي إلى ضعف الثقة بين المواطن والدولة في حين أنها تؤدي سياسياً إلى تآكل شرعية المؤسسات، وتراجع فاعلية الحكم الرشيد.

ويشدد الباحث على أن الاختلاس والفساد الاقتصادي في الأردن ليسا مجرد حالات فردية، بل تعبير عن أزمة بنيوية تتطلب بناء عقد اجتماعي جديد قائم على العدالة والشفافية والمحاسبة الفعلية.

بلغ عن الفساد

لكن السلطات تتسلح في مواجهة اتهامها بالتقصير بوجود تطبيق ذكي على الهواتف المحمولة يمكن الأردنيين التبليغ عن شبهات الفساد الإداري والمالي بكل سهولة، حيث أطلقت هيئة النزاهة ومكافحة الفساد حملة إعلامية تحت شعار "بلغ وهيئة النزاهة تحميك" تستهدف المواطنين وموظفي مؤسسات الإدارة العامة وجميع شرائح المجتمع تحفزهم على ضرورة الإبلاغ عن أفعال الفساد التي يشهدونها أو يتعرضون لها، كما أطلقت مؤشر النزاهة الوطني.

وتأسست هيئة مكافحة الفساد عام 2006 قبل أن تدمج لاحقاً مع ديوان المظالم لتصبح هيئة النزاهة ومكافحة الفساد.

بالاطلاع على التقرير السنوي لهيئة النزاهة ومكافحة الفساد لعام 2023 فقـد  تعاملت الهيئة مـع 2431 ملفاً، حيث بلغ عـدد المفصـول منها 1591 ملفاً أحيـل منها 251 إلى مدعي عـام النزاهـة ومكافحة الفساد و1301 أحيلت إلى مديريات أخرى في الهيئة.

وتمكنت الهيئة خـلال عـام 2023 مـن استرداد الأموال الناجمة عـن أفعـال لفساد مباشرة أو أسهمت في استردادها أو أوقفت أو منعت هدرهـا بقيمة زادت عن قيمتها عن 141 مليون دينار (198.8 مليون دولار).

في المجمل بلغ قيمة المبالغ المستردة منذ إنشاء الهيئة نحو 2 مليار دينار أردني (نحو 2.82 مليار دولار).

بدوره يؤكد رئيس مجلس هيئة النزاهة ومكافحة الفساد مهند حجازي أن عملية الإصلاح تتطلب تغيير الثقافة المؤسسية تبدأ من وجود إرادة صريحة لدى الإدارة العليا وموظف عام كفء وفعال وبيئة عمل صحية ونزيهة قوامها سيادة القانون والعدالة والمساواة والشفافية والمساءلة، وأن دور الهيئة يتوقف عن تحويل القضايا إلى المحاكم المتخصصة.

وقال مسؤول في الهيئة لـ"اندبندنت عربية" إن حالات الاختلاس بدأت تتناقص بصورة ملحوظة، وأن العام الحالي لم يشهد أي قضية، وأن الظاهرة في طريقها إلى الانتهاء تماماً، لكن في المقابل ثمة انتشار للرشوة.

تضيف الهيئة أن لديها إجراءات حقيقية على أرض الواقع يشعر بها الموظف والمواطن على حد سواء، حيث قامت بتعيين ضباط ارتباط في كل المؤسسات المعنية، كنوع من الإجراء الاستباقي لأي محاولة اختلاس مالية أو تعدٍّ على المال العام.

ووفقاً للهيئة حقق الأردن خـلال عـام 2023 على مؤشـر مـدركات الفسـاد المركز الرابع عربياً والمركـز 63 عالمياً بـين 180 دولـة، كما حقـق الأردن المركـز الأول عربياً مـن أصل 196 دولـة علـى مؤشر الفساد العالمـي الذي أصدرتـه الشركة السويسرية لإدارة الأخطار عـام 2021.

تحولات أنماط الاختلاس

في العقود الأولى من تأسيس الدولة الأردنية، كانت حالات الاختلاس محدودة ومحصورة في الإدارات الصغيرة، وغالباً ما كان يتم التعامل معها إدارياً أو عشائرياً، حيث كانت الدولة تتمتع بنظام بيروقراطي متماسك.

ومع سياسة التحول الاقتصادي بداية التسعينيات تمت خصخصة عدد من المؤسسات العامة، وعكست هذه التحولات ظهور أول قضايا الاختلاس المالي الكبرى.

ويرصد مراقبون تحولات تاريخية في أنماط الاختلاس منذ تسعينيات القرن الماضي حتى اليوم، حيث تطور الأمر من الأساليب التقليدية عبر الاختلاس النقدي المباشر من الصناديق أو تزوير الشيكات إلى مرحلة بداية الرقمنة وتقليل التعامل الورقي حيث ظهرت أنماط جديد كتعديل الأرقام عبر أنظمة محوسبة بسيطة، أو إجراء تحويلات مصرفية داخلية واختراق أنظمة تحويل الأموال أو إعداد أوامر صرف وهمية، أو حتى إنشاء شركات وهمية وتسجيل فواتير إلكترونية غير حقيقية.

وعلى رغم تركيز الخطاب الرسمي حول مكافحة الفساد في الأردن غالباً على قضايا الاختلاس الكبرى، فإن ما يعرف بـ"الفساد المؤسسي الصغير" أو "الفساد الأبيض" لا يقل خطورة على المدى البعيد، ويشمل ممارسات مثل سرقة الوقت الوظيفي واستخدام المركبات الحكومية لأغراض شخصية والتلاعب بفواتير المياومات والسفرات الرسمية، وهي ممارسات ترتكب يومياً في عدد من المؤسسات العامة وينظر إليها بوصفها أخطاءً إدارية، لكنها تكرس ثقافة التطبيع مع الفساد وتُمنهج لانتقاله من فساد فردي إلى مؤسسي.

subtitle: 
معضلة اقتصادية تواجهها الدولة يوازيها غياب العقوبات الرادعة وضعف الشفافية
publication date: 
الاثنين, مايو 12, 2025 - 14:45
Read Entire Article