ARTICLE AD BOX
بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها في العاصمة الليبية طرابلس، وفتحت محال المدينة ومرافقها العامة أبوابها، وضجت طرقاتها بالحركة، وأعلنت جامعة طرابلس ومراقبات التعليم في بلديات المدينة، الأحد، استئناف الدراسة بعد تعليقها منذ الثلاثاء الماضي، لكن توجه الطلاب نحو المدارس والموظفين نحو أعمالهم يظل مشوباً بالترقب والحذر من إمكانية عودة الاشتباكات.
يخشى الليبي إبراهيم المقري، أن تكون التهدئة القائمة مجرد "استراحة قصيرة" أقرتها المجموعات المسلحة المتنافسة على مواقع النفوذ داخل أحياء العاصمة السكنية، ولاتزال ذكريات ليلة الثلاثاء الماضي الدامية عالقة في ذاكرته، ويقول لـ"العربي الجديد"، إن "الاشتباكات المسلحة تركت وراءها دماراً مادياً ومعنوياً يصعب محوه".
ونفذت القوات الحكومية عملية عسكرية خاطفة، ليل الاثنين 12 مايو/أيار، ضد جهاز دعم الاستقرار، إحدى أكبر مليشيات طرابلس، من دون أية خسائر بشرية، رغم أن الجهاز تقع مقراته الرئيسية في حي أبو سليم، أكثر أحياء طرابلس اكتظاظاً بالسكان، لكن الليلة التالية كانت دموية، إذ انهمر الرصاص والقذائف فجأة من اتجاهات متقاطعة داخل الشوارع الضيقة، وتحولت أحياء الفرناج وباب بن عشير وزاوية الدهماني والظهرة والسدرة إلى ساحة حرب مفتوحة بين قوتين مسلحتين هما "جهاز الردع" و"اللواء 444 مشاة"، وطاولت الاشتباكات معظم أحياء المدينة، في مواجهات هي الأشرس منذ سنوات.
كان أحمد التليسي يعتقد أن المواجهات ستنتهي خلال ساعتين أو ثلاث كما المواجهات السابقة، لكن مع تعالى أصوات الرصاص والقصف أيقن أنها ستخلف أضراراً كبيرة، كان من بينها رؤيته لمقذوف آر بي جي يثقب جدار إحدى العمارات السكنية القريبة منه.
تحولت المواجهات سريعاً إلى ما يشبه الحرب الشاملة كما أظهرت مقاطع الفيديو التي تداولها السكان، والتي قاموا بتصويرها من نوافذ بيوتهم، ونشروها على منصات التواصل الاجتماعي مرفقة باستغاثات ومطالبات بوقف القتال. كانت تلك المقاطع تظهر صدى أزيز الرصاص والقذائف يتردد في أغلب أحياء العاصمة، ومن بينها مشاهد صورها السكان لسياراتهم المصفوفة أمام عماراتهم وقد احترقت تماماً، وأخرى تظهر أعمدة دخان من بعيد في مجمعات تجارية وفنادق، مثل فندق كورونثيا، ومجمع ذات العماد التجاري.
لم تكن الممتلكات وحدها هي الضحية، ففي أحياء زاوية الدهماني والفرناج، حوصرت عائلات لساعات داخل منازلها، بينما كانت فرق الإسعاف والهلال الأحمر عاجزة تماماً عن الوصول إليهم نتيجة استمرار القصف. تصف أمينة الساحلي، وهي أرملة وأم لثلاثة أطفال، كيف اختبأت مع أولادها في مخزن بيتها لأنه الأكثر بعداً عن نوافذ شقتها في حي الفرناج، وتنقل عن جيرانها أن عائلة مقيمة في بناية مجاورة لم تتمكن من نقل أحد المصابين إلى المستشفى، فضمدوا إصابة في قدمه بواسطة إرشادات كان يمليها عليهم طبيب من معارفهم عبر الهاتف.
ووفقاً لشهادة الساحلي، فإن سكان "عمارات الطبي" بحي الفرناج عاشت ساعات مروعة، ومن الأحداث المؤسفة التي ترويها عجز فرق الإسعاف عن الوصول إلى سيدة كانت في حالة ولادة متعسرة، وانتهى الأمر بجاراتها إلى مساعدتها على إنجاب طفلتها وسط ظروف معقدة.
ما أن أعلنت حكومة الوحدة الوطنية، صباح الأربعاء الماضي، وقف إطلاق النار، حتى عاد الهدوء، لكنه لم يكن بسبب توقف القتال. يقول أيوب الجوابي، أحد سكان حي السدرة، إن السكان وجدوا في التهدئة فرصة لترك بيوتهم والانتقال إلى مناطق أكثر أمناً خشية تجدد الحرب، وانعكس هذا الشعور بالخوف على حركة الحياة خلال يومي الخميس والجمعة، فما أن يحل الليل حتى تتوقف الحركة تماماً، بل إن عدداً من سكان الطوابق العليا في عمارات السدرة السكنية انتقلوا إلى شقق جيرانهم في الطوابق السفلى خوفاً من سقوط القذائف.
ويقبع خطر الموت وراء هذه الأحداث الدامية المتكررة التي يعيشها السكان في كل مرة، وهناك معضلة كبيرة يوضحها المقري، وهي "تمركز المليشيات في المقار الحكومية الواقعة داخل الأحياء السكنية، فجهاز الردع يكون في الكثير من المواقع الحكومية والإدارية داخل أحياء عين زاره والسبعة، واللواء 444 قتال حول الكثير من المواقع إلى نقاط حراسة في الطرقات الرئيسية وداخل الأحياء.
وفي وجه آخر لمآسي الحروب، تقول أمينة الساحلي إن "سكان حي الفرناج عندما يجرون إصلاحات في منازلهم المتضررة من الاشتباكات، يدركون أن المليشيات قد تعيد الإضرار بها مجدداً، خاصة وأن الحي فيه العديد من نقاط التماس بين المجموعات المسلحة المتنافسة".
وخلال العامين الأخيرين، أطلقت وزارة الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية خططاً لإخلاء طرابلس من المظاهر المسلحة، وأعلنت تسلم فرق الأمن المفترقات داخل الأحياء والطرقات الرئيسية، بينما تعود المليشيات إلى مقارها الرئيسية، لكنها اصطدمت بالأمر الواقع، فالمليشيات ترفض التخلي عن مواقعها الاستراتيجية داخل الأحياء السكنية، لأنها تعتمد على القرب من المرافق الحيوية لتعزيز نفوذها المالي والسياسي، كما أن بعض مقارها الرئيسية تقع داخل الأحياء السكنية، مثل مقر جهاز دعم الاستقرار الذي يقع في قلب حي أبو سليم.
وبينما يحاول سكان أحياء طرابلس إزالة آثار الحرب بمساعدة أفراد الشركة العامة للنظافة، تستعيد المدارس والمحال والطرقات حياتها، يقول أيوب المقري إن "سؤال السلامة لا يزال معلقاً من دون جواب، فاتفاق وقف إطلاق النار تكرر كثيراً، وهو مجرد وصفة لتسكين الآلام، بينما نحتاج إلى حل جذري ينتزع بؤر الصراع المسلح من قلب العاصمة الليبية".
