الاقتصاد التركي بين مطرقة التضخم وسندان الفائدة: آمال النمو معلقة

4 days ago 3
ARTICLE AD BOX

تحاول الحكومة التركية الجمع بين المتناقضات، فمن جهة تسعى لكسر نسبة التضخم لتعيدها إلى خانة الآحاد، عبر الاستمرار بنهج التشدد النقدي ورفع أسعار الفائدة ما يغري الرساميل بالذهاب إلى خزائن المصارف على حساب التوجه للاقتصاد الحقيقي والإنتاج. ومن جهة ثانية، تحاول تحسين نسبة نمو الاقتصاد التركي المتراجعة، التي تتطلب تيسيراً نقدياً وإخراج الايداعات من المصارف للسوق والإنتاج، لأن التعويل على المال الخارجي والاستثمارات لم يكف لصدمة الاقتصاد التركي الحالم، أو يوصل أنقرة إلى نسب الماضي وقت تعدت نسبة نمو اقتصادها، دول الاتحاد الأوروبي، ما انعكس اضطراباً في بعض القطاعات وتذبذب وتراجع في سعر الصرف، ما ينذر بجمود يؤثر في أماني النسب والأرقام التي أعلنتها أنقرة خلال برنامجها الاقتصادي.

توقعات حذرة لنمو الاقتصاد التركي

تتوالى التوقعات المخالفة للآمال التركية بالعودة إلى قاطرة نمو، وقت اقتربت النسبة من 5% عام 2021 قبل أن يبدأ بالتراجع ليسجل عام 2023 نحو 4.5% ونسبة 3.2% العام الماضي، وتزيد التوقعات بالتراجع العام الجاري، ما يهدد آمال تركيا وتوقعاتها التي طرحتها خلال برنامج الإصلاح الاقتصادي العام الماضي، سواء لجهة نمو الناتج المحلي أو حتى التضخم.

وتوقعت المفوضية الأوروبية في تقريرها "التوقعات الاقتصادية لربيع 2025" الصادر أمس الاثنين، أن يشهد الاقتصاد التركي تباطؤاً في النمو خلال عام 2025، في ظل استمرار حالة عدم اليقين السياسي وتقلبات الأسواق المالية، رغم إجراءات الاستقرار الاقتصادي التي تبنتها أنقرة، وذلك قبل أن تشهد تركيا تعافياً في العام التالي. 

ويقول تقرير المفوضية إن معدل النمو، الذي بلغ 3.2% في عام 2024، سيتراجع إلى 2.8% في عام 2025، قبل أن يرتفع مجدداً إلى 3.5% في 2026. ويُعزى هذا التباطؤ إلى ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية، ما أدى إلى تراجع الاستثمار الخاص، إضافة إلى توقعات بتباطؤ تكوين رأس المال الثابت مع نهاية مرحلة إعادة الإعمار بعد زلزال 2023.

وحول استهلاك الأسرة التركية، تتوقع المفوضية أن يشهد استهلاك الأسر نمواً بنسبة 3.5% بفضل تحسن التوقعات المالية، بينما يُنتظر أن تتبع الحكومة التركية سياسة أكثر تحفظاً في الإنفاق العام، في إطار إجراءات تهدف إلى تحقيق انضباط مالي. كذلك سيبقى نمو الصادرات محدوداً نتيجة ارتفاع قيمة الليرة الحقيقية وضعف الطلب الخارجي.

ورغم بعض المكاسب المتوقعة جراء تغيير اتجاهات التجارة بسبب الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة، فإن مساهمة صافي الصادرات في النمو ستكون هامشية خلال 2025-2026. بالمقابل، يُنتظر أن يبقى عجز الحساب الجاري في مستويات منخفضة، بفضل تراجع أسعار الطاقة وتوازن الواردات.

ولم تسلم نسبة آفة البطالة، إذ أشار التقرير إلى تباطؤ في سوق العمل مع احتمال ارتفاع معدل البطالة في ظل استمرار نقص العمالة وضغط التكاليف. ولم تبتعد توقعات المفوضية عما قاله بنك أوروبا لإعادة الإعمار والتنمية الأسبوع الماضي، بتحقيق الاقتصاد التركي نمواً قدره 2.8 بالمائة هذا العام، و3.5 بالمائة في 2026. 

ويتوقع بنك أوروبا لإعادة التنمية الذي يستثمر في تركيا بنحو 22 مليار يورو، أن تظل السياسة النقدية بتركيا متشددة لمدة أطول من خلال رفع أسعار الفائدة، فيما أبقى صندوق النقد الدولي، في تقريره الصادر في إبريل/نيسان الماضي، على توقعاته لنمو الاقتصاد التركي عند 2.7% للعام الحالي.

الفائدة المصيدة

يجمع اقتصاديون على أن عودة المصرف المركزي التركي لاستخدام الأداة النقدية سعر الفائدة باستمرار، سواء بضبط المعروض النقدي وتحسين سعر الصرف، المتراجع لنحو 38.85 ليرة مقابل الدولار، هو السبب الأهم بتراجع نسبة النمو، لأن القطاع الإنتاجي، زراعة أو صناعة، برأي الاقتصادي التركي، أوزجان أويصال، لن يحقق نسبة ربح تصل إلى أكثر من 45% سنوياً، فلماذا يجازف أصحاب الأموال؟

ويضيف أويصال لـ"العربي الجديد" أن على صناع السياسة الاقتصادية التوسع بالحلول إلى أبعد من الفائدة المصرفية، سواء عبر استخدام مدخرات الأتراك الذهبية، كما رأينا أمس، أو زيادة الإنفاق الحكومي أو حتى البحث عن استثمارات جديدة عبر مزايا وتسهيلات جديدة أو حتى عقد مؤتمر للاستثمار بقطاعات الطاقة والتكنولوجيا والصناعات العسكرية، وهي قطاعات واعدة جداً بتركيا، بدلاً من العودة إلى سياسة التشدد ورفع سعر الفائدة، هذا إن لم نشر إلى عداء الرئيس والحكومات السابقة لأسعار الفائدة المرتفعة، لما تسببه من تعطيل للاقتصاد الحقيقي.

وكان المصرف المركزي التركي قد رفع بآخر جلسة للجنة السياسات النقدية سعر الفائدة بنحو 3.5% لتصل الفائدة إلى 46%، ليعود بذلك إلى سياسة التشدد النقدي بعد سياسة تسيير اعتمدها منذ مطلع العام الجاري حينما بدأ بكسر الفائدة المرتفعة عن 50% على ثلاث جلسات آخرها في مارس/آذار الماضي، عندما خفضها من 45 إلى 42.5%.

ويعتقد أويصال أن العصر الذهبي للاقتصاد التركي كان خلال فترة الفائدة المنخفضة، بل بقيت نسبة النمو مرتفعة حين انخفضت نسبة الفائدة إلى 8.5% العام الماضي، معترفاً بأن نسبة التضخم المرتفعة التي زادت على 70% قبل عامين، هي التي دفعت الحكومة إلى استخدام الفائدة. ويخشى الاقتصادي التركي من تثبيت سعر الفائدة المرتفعة، أو ربما رفعها أيضاً، بناءً على "التوصيات الخارجية" التي برأيه تريد تكبيل الاقتصاد التركي والحد من نموه، كي "تتغزل به" وترفع التصنيف الائتماني وتقلل من نسبة المخاطر.

العلة والدواء

ووضعت الحكومة التركية تخفيض نسبة التضخم، هدفاً تكتيكياً واستراتيجياً في وقت واحد، عبر كسر حدة النسبة سنوياً للوصول إلى خانة الآحاد نهاية برنامج الإصلاح الاقتصادي، وكأن ثمة إجماعاً على أن تخفيض التضخم، هو الأساس باستقرار الأداء الاقتصادي والسبيل الأمثل لتحسين معيشة الأتراك، من دون العودة إلى رفع الأجور، مرتين كل عام، كما اعتمدت الحكومة التركية خلال العامين الماضيين.

وأفلحت تركيا وبرنامج الإصلاح بكسر حدة التضخم، وإن بنسب قليلة، إذ يكشف معهد الإحصاء التركي عن تراجع معدل التضخم السنوي في شهر إبريل/نيسان الماضي إلى 37.86%، وهو الأدنى في 40 شهراً مع ارتفاع المعدل الشهري إلى 3%. وارتفاع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 36.09% سنوياً في الأغذية والمشروبات غير الكحولية. وتستمر نسبة التضخم بالتراجع كما وعدت الحكومة ونص البرنامج الاقتصادي للعامين المقبلين.

وبنظرة إلى نسبة التضخم خلال الشهرين الماضيين، يلاحظ استمرار التراجع عن شهر مارس/آذار الذي سجل 38.10%، والتضخم خلال فبراير/شباط الذي وصل إلى 39.05%، والذي يعزوه مراقبون، بالدرجة الأولى، إلى عودة تركيا إلى رفع أسعار الفائدة المصرفية. وتُعد هذه النسبة المتوقع تراجعها تدريجياً، مؤشراً على نجاح السياسة النقدية المتشددة التي تتبعها أنقرة منذ منتصف عام 2023. بحسب ما قال وزير الخزانة والمالية، محمد شيمشك، خلال مقابلة تلفزيونية، بأن البرنامج الاقتصادي يسير في الاتجاه الصحيح، متوقعاً انخفاض التضخم إلى أقل من 30% بحلول نهاية عام 2025، خصوصاً بعد انتهاء العمل بقانون سقف الإيجارات في يوليو/تموز المقبل.

ويقول مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في إسطنبول، محمد كامل ديميريل لـ"العربي الجديد" إن استقرار الأسعار وتحقيق انخفاض دائم في التضخم، هما الهدف والأولوية للحكومة، ورغم ما يرافقهما من تبعات، إلا أن ذلك منطلق لا بد منه.

وحول أثر استهداف التضخم على نسبة النمو، يضيف كامل ديميريل أن تركيا بدأت، منذ سنوات بتنوع مصادر النمو، ولم تعد تعتمد على الشكل النمطي، إلى جانب تقليل الاعتماد على الطلب المحلي وتحفيز الطلب الخارجي، مؤكداً دور نهج الحكومة واستراتيجيتها في دعم قطاعات التكنولوجيا والتصنيع باعتبارها محركات رئيسية للنمو وخلق فرص العمل، ووسيلة لتقليص الاعتماد على الواردات.

ويختم مدير مركز الأبحاث بأن ارتفاع نسبة التضخم مؤرقة، ولا شك، ولكن تركيا حققت -ولم تزل- قفزات، والمتوقع عودة ارتفاع نسبة النمو في العام المقبل، مشيراً إلى ارتفاع الدخل القومي وحصة الفرد بعد تعزيز الاستثمار والإنتاج والتصدير الذي زادت قيمته على 265 مليار دولار العام الماضي، وأن تركيا تصدرت العالم في إنتاج الطائرات المسيرة، وبلغت 11 عالمياً بالصادات الدفاعية، وزادت حصة الاقتصاد التركي من الاقتصاد العالمي من 0.7 إلى 1.1%، وهو رابع أكبر اقتصاد في القارة الأوروبية.

Read Entire Article