ARTICLE AD BOX
في ظل اشتعال المشهد السياسي الليبي، بمواجهات مسلحة متجددة في العاصمة طرابلس، وصراعات سياسية على السلطة بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة في طرابلس ومجلس النواب برئاسة عقيلة صالح، الذي أعلن سعيه لتشكيل حكومة جديدة، تبرز تداعيات عميقة تطاول البنية الاقتصادية الهشة أصلاً، حيث تتشابك خيوط الأزمة بين انقسامات السلطة وتراجع الثقة الدولية وتأرجح المؤشرات المالية بين تحسن شكلي ومخاطر حقيقية تهدد بانهيارات مفاجئة. وفي خضم هذا المشهد المعقد، يحاول الاقتصاد الليبي الصمود أمام عاصفة من التحديات، بدءاً من استمرار الإنتاج النفطي شرياناً وحيداً للحياة، مروراً بمشاريع بنى تحتية متعثرة، ووصولاً إلى منظومة مصرفية تعاني آثار الاختلال الهيكلي والتشظي الأمني.
وبدأت ارتدادات الأزمة السياسية على الوضع الاقتصادي في الصعود مع عودة الاحتراب في طرابلس مؤخراً، على الرغم من محاولة المؤسسات الاقتصادية النأي بنفسها عن الصراع، ففي تأكيد من المؤسسة الوطنية للنفط عدم تأثرها بمجريات الأوضاع في البلاد، أعلنت استمرار الإنتاج عند 1.376 مليون برميل يومياً، وكذلك استمرار تصدير الغاز الطبيعي من دون انقطاع. ويبدو أن بيان مؤسسة النفط ينطلق من كون مناجم النفط وموانئ تصديره تقع خارج ساحة القتال في طرابلس. وعلى الرغم من أن الطمأنة التي أرسلتها المؤسسة حيال تأثيرات الوضع الظرفي في طرابلس على عمليات الإنتاج والتشغيل، لكنها تبدو طمأنة ظرفية بالنظر إلى واقع الصراع السياسي الذي احتد في الأيام الأخيرة، بين الحكومة في طرابلس بوضعها المعقد وبين مجلس النواب الذي يوظف الأحداث لإطاحتها.
اختلالات عميقة
وفي جانب مصرف ليبيا المركزي فالصورة أكثر تعقيداً، فمن جهة، تشير بياناته الأخيرة إلى نمو إجمالي الأصول المصرفية بنسبة 5.7% خلال الربع الأول من السنة الحالية، وارتفاع السيولة الفائضة إلى 54.5 مليار دينار. لكن الأكاديمي والخبير المالي، مختار شنشوب، يرى أن هذه المؤشرات الإيجابية التي كشف عنها بيان المصرف المركزي، تخفي وراءها اختلالات عميقة، إذ يرى أن فائض السيولة الذي يرتفع باستمرار يقر المصرف المركزي نفسه، في البيان ذاته، أنه يعكس عجز المصارف التجارية عن توظيف الأموال بسبب غياب البيئة الاستثمارية الآمنة. وعليه فيعتبر شنشوب أن النظام المالي أمام طريقين، إما البحث عن آليات مبتكرة لتحفيز الاستثمار، وإما الاستمرار في تكديس أموال معطلة في خزائن المصارف. ويحدد شنشوب في حديثه لـ"العربي الجديد" عمق تأثير الصراعات السياسية المحتدة على واقع الاقتصاد في الحلقة المفرغة التي يمول فيها النفط المصارف.
وفي توضيح أكثر يرى شنشوب أن الفوائض في السيولة التي تكلم عنها بيان المصرف المركزي، هي تجلٍّ واضح على عجز المنظومة المالية عن تحويل المدخرات الى استثمارات تفتح موارد أخرى للخزينة، والاعتماد على النفط بشكل شبه كلي يجعل البلاد أمام خطر حقيقي ومخيف بانهيار سريع اذا وصل التصعيد السياسي إلى حد الانسداد الكلي بين الحكومة التي لا تملك إلا شرعية تصدير النفط عبر المؤسسة الوطنية للنفط، وخصومها السياسيين الذين لا يسيطرون على منابع النفط ومنافذ تصديره. وأبدى 26 نائباً في مجلس النواب، في بيان مشترك الاثنين الماضي بالتزامن مع عزم مجلس النواب تشكيل حكومة موحدة للبلاد، اعتراضه على ذهاب مجلس النواب نحو تشكيل حكومة موحدة للبلاد، وأكدوا تمسكهم بالحكومة الحالية في بنغازي المكلفة من مجلس النواب، محذرين من أن تغيير الحكومة سيؤدي إلى شلل في مشاريع إعادة الإعمار التي يمولها "صندوق التنمية" التابع لبلقاسم حفتر في الشرق.
وفي طرابلس تعرقلت أعمال ائتلاف شركات مصرية تنفذ مشروع الطريق الدائري الثالث، أكبر مشروعات الطرقات في العاصمة بتكلفة تزيد عن أربعة مليارات دينار ليبية، إثر اندلاع الاشتباكات في طرابلس، ورغم إعلان ائتلاف هذه الشركات عدم توقفها ورغبتها في استئناف أعمالها قريباً، تبدو عودة عمالها مشوبة بحذر ومخاوف تجدد الاقتتال في ظل هدنة بين طرفي الاقتتال لا تزال هشة. وكان ظل الاقتصاد والمال حاضراً في أسباب الأحداث الدامية الأخيرة في طرابلس، ففي توضيحه لأسباب العملية العسكرية التي شنتها الحكومة، الأسبوع الماضي، على مقرات جهاز دعم الاستقرار، أكبر مليشيات العاصمة طرابلس، قال رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة إن هذا الجهاز "سيطر على ستة مصارف" وتنفذ خلالها عبر شخصيات موالية له، عقد صفقات لصالحه للحصول على أموال طائلة.
انسحاب الشركات
والمصرف المركزي نفسه لم يكن بمعزل عن تأثيرات الفوضى الأمنية، فبعد تسرب أخبار عن محاولة اقتحام لمقر المصرف في طرابلس، جرت الأسبوع الماضي، تأكد ذلك بجولة أجراها محافظ المصرف، ناجي عيسى، وفريقه الإداري، داخل المقر، حيث أوضح بيان للمصرف أن مقره لم يتعرض إلا لأضرار طفيفة. ويرى وزير الدولة للشؤون الاقتصادية السابق في حكومة الوحدة الوطنية ورئيس مجلس المنافسة ومنع الاحتكار الحالي التابع بمجلس النواب، سلامة الغويل، أن تأثيرات الوضع السياسي القائم الآن هو امتداد لما سبقه من غياب أفق الحل، مؤكداً أن الاحتداد السياسي الحالي سيكون له تأثيرات جمة على المستوى قصير ومتوسط الأجل على القطاعات النفطية والمصرفية التي يرى أنها تأثرت إدارتها بعقلية الولاءات والمصالح الشخصية المرتبطة بدوائر السلطة، خاصة في حكومة الوحدة الوطنية.
ويلقي الغويل، خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، باللائمة على حكومة الوحدة الوطنية، فكونها تملك الشرعية الدولية فلديها القدرة على إدارة أموال الدولة واستثمارها وتوظيف الاعتراف الدولي. لكنه يرى أن الحكومة أخفقت في ذلك، ولم تستثمر حتى "الأموال المجنبة" التي تركها النظام السابق في خزائن الكثير من المؤسسات الاقتصادية المحلية. ويعود الغويل لتأكيد أن مؤسسات الاقتصاد معرضة كلها لخطر الأزمة السياسية المحتدة. وفي مؤشر متصل بخطورة ضياع مكتسب الاستقرار السياسي النسبي السابق على جانب الاستثمارات الأجنبية، تزامنت المواجهات المسلحة في طرابلس مع افتتاح "معرض ليبيا بيلد"، الأسبوع الماضي، بمشاركة 260 شركة دولية ومحلية، إذ انسحبت الشركات الأجنبية ونقلت ممثليها إلى مطار مصراتة، شرق طرابلس، وسفرتهم على الفور، ما يزيد من حالة التشكيك الدولي في البيئة الاستثمارية التي تعتمد على هدنة أمنية مؤقتة، خاصة أن هذه الاختراقات المسلحة المفاجئة تكررت عديد المرات.
