البحث عن ذاكرتي في زمن التشتت

1 week ago 7
ARTICLE AD BOX

في الماضي كنت أتذكّر، ولكني ما عدت أذكر أكان ذلك في صغري أم قبل طوفان تدفّق معلومات الإنترنت الذي يغرقنا ما إن نفتح أعيننا كلّ صباح. كنت أتذكّر تفاصيل الكتب التي أقرأها، أصغر حبكات الأفلام وقصصها التفصيلية، أرقام الإحصائيات، تسلسل الحجج في النقاشات، دقائق التقارير، وأحيانًا حتى صفحة وجود معلومة بعينها. لم أكن فقط أستهلك المعرفة، بل كنت أعيشها، أحتفظ بها على مرمى حجر في ذاكرتي، وأستحضرها كما يستحضر الإنسان اسمه الأوّل.

لكن شيئًا ما تغيّر. اليوم، ما إن أنتهي من قراءة كتاب حتى أنساه، ما إن أفرغ من مشاهدة فيلم حتى تتبخّر القصة من رأسي. أصوغ نصًا طويلًا على مدى أشهر، وبعد أسابيع بالكاد أستطيع تذكّر خطوطه العريضة، فضلًا عن تفاصيله. وكأنّ عقلي يصبح كسطح أملس تتساقط عليه المعلومات وتنزلق كقطرات المطر على زجاج سيارتي الأمامي من دون أن تترك أثرًا.

وهذه ليست مبالغة عاطفية، بل نتاج مجموعة ظواهر تدعمها مجموعة من الأبحاث التي تناقش آثار مجموعة من الظواهر، إحداها ما بات يسمّى تأثير غوغل (Google Effect)، وهي ظاهرة تشير إلى أنّ أدمغتنا في عصر الإنترنت، أصبحت أقلّ اهتمامًا بحفظ المعلومات، وأكثر اعتمادًا على قدرتنا على البحث عنها لاحقًا. نحن لم نعد نثق بذاكرتنا، بل بقدرة غوغل على أن يحلّ مكانها ما دمنا قادرين على إيجاد المعلومة عبره في أيّ وقت نشاء.

المخيف، اعتقاد البعض أنّ تأثير غوغل قد يكون مؤشّرًا على تطوّر المهارات التقنية وتسخير التكنولوجيا، على الرغم من عدم وجود دليل على أنّ قدراتنا البحثية في تحسّن. بل على العكس يبدو أنّ قدراتنا في التفكير النقدي في تراجع، حيث إنّ غالبيتنا فقد القدرة على تقييم المعلومات التي تقذفها الإنترنت الغارقة في المعلومات المضلّلة في وجوهنا.

نحن لم نعد نثق بذاكرتنا، بل بقدرة جوجل على أن يحلّ مكانها ما دمنا قادرين على إيجاد المعلومة عبره في أيّ وقت نشاء

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ خلف هذا التراجع في القدرة على التذكّر، يكمن ما هو أعمق وأكثر إنهاكًا، الإرهاق المعلوماتي. نحن ببساطة نتعرّض يوميًا إلى كمٍّ هائل من البيانات والأخبار والإحصائيات والرسائل والتنبيهات والعناوين المتدفّقة من كلّ اتجاه. وشخصيًا وجدت نفسي أُسحق تحت وطأة كثافة معرفية لا يمكنني استيعابها، فضلًا عن تذكّرها أو توظيفها في بعض الأيّام، حين يعلو تسونامي المعلومات لدرجة أننا نقرأ ونتابع فقط لأننا مجبورون على لذلك، لا لأننا نتمعن أو نفهم بتعمّق أو نستمتع بما نقرأ ونتابع، ونستمر في التنقّل من مجموعة معلومات إلى أخرى من دون أن أن نتذوّق أيًّا منها، حتى بتنا نستهلك كمًا من المعلومات بما يتجاوز قدرتنا على هضمه. نقرأ كثيرًا، لكن يتسلّل إلى أعماقنا الفتات. نعرف عن كلّ شيء القليل، ولكننا لا ندرك شيئًا بعمق.

ولربما نكأ الكاتب نيكولاس كار جرح فقداننا القدرة على التركيز العميق باكرًا في كتابه "السطحيون: ما تفعله الإنترنت بأدمغتنا"، حين تحدّث عن كيف تُعيد الإنترنت تشكيل أدمغتنا، وحذّر من أنّ التحوّل إلى العوالم الرقمية قد يجعلنا أكثر سطحية في تفكيرنا، مع فقداننا بشكل تدريجي لمهارات القراءة العميقة والتحليل النقدي، وكيف أنّ اعتمادنا على الإنترنت كـذاكرة خارجية يضعف قدرتنا على التذكّر والربط بين المفاهيم. ويدعو نيكولاس كار إلى إدراك خطورة هذه التغييرات وموازنة استخدام التكنولوجيا للحفاظ على قدراتنا الذهنية.

وسط كلّ هذه الفوضى الرقمية، هل يمكن لإنسانٍ مثلي أمضى طفولته بين الكتب غير الدراسية، وغرق خلال سنين عمله في تحليل السياسات والوثائق الطويلة وتذكّر الأرقام وربط الاستراتيجيات بالوقائع أن يبقى على حاله؟ لا أظن ذلك. لقد تغيّرت. تغيّرت طريقتي في التعلّم، في الحفظ، في التركيز. وأكاد أجزم أنّ هذه التغيّرات لم تأتِ من داخلي وحدي، بل فرضها السياق الرقمي الذي نعيش فيه جميعًا، وعليّ الاعتراف بأنّ ذاكرتي التي كانت حديديةً فيما مضى لم تعد كما كانت.

نعيش في عالم لم يُصمَّم لحفظ المعرفة، بل لتداولها السريع

ربما ما نحتاجه الآن ليس فقط الحديث عن ضعف الذاكرة، بل عن حقّنا في التركيز، وفي التروي أحيانًا، وفي الاستيعاب العميق، وفي امتلاك معرفة متجذّرة وليست آنيةً فقط. ربما آن أوان أن نعيد النظر في علاقتنا مع المعرفة، وأن نتعلّم من جديد كيف نقرأ ونتابع ونتعلّم.

لربما لا يمكنني استعادة ذاكرتي بشكلها القديم، ولا استرجاع ذلك القارئ النهم الذي كان يتذكّر المعلومة كما يتذكّر رائحة كتاب قديم في مكتبته، وعلى الرغم من ذلك فإنّ الباحثين لا ينكرون قدرة الدماغ على التكيّف الإيجابي، بل يؤكّدون ما يُعرف بالمرونة العصبية، أي قدرة الدماغ على إعادة تشكيل نفسه بالتدريب والممارسة، فمثلما تُقوّي التمارينُ العضلات، فإنّ التدريبَ الذهني يُحفّز الدماغَ على تكوين مساراتٍ عصبية جديدة. وهنا تظهر طرق تنشيط الذاكرة وتحسين التركيز مثل القراءة المتروية والعميقة بدل التصفّح السريع، والكتابة باليد التي تعزّز الحفظ، والتأمّل وتمارين التنفس لتحسين الانتباه وتصفية التشويش الذهني، وبالتأكيد تقليل التشتّت الرقمي عبر إطفاء التنبيهات وتخصيص وقت بلا شاشات، ولا بأس ببعض التمارين العقلية المنتظمة كالحفظ، أو حل الألغاز، أو تعلم لغة جديدة.

لكن حتى مع هذه الأدوات التي بدأت بممارسة بعضها فعلًا، تبقى الحقيقة أنّ ذاكرتي لن تعود كما كانت تمامًا، لأن السياق تغيّر. فنحن نعيش في عالم لم يُصمَّم لحفظ المعرفة، بل لتداولها السريع، من هنا، ربما ليس من الحكمة الاستبسال في استعادة ما كان، بل في التكيّف الواعي من خلال إدراكي أنني أعيش في عصر رقمي سريع لا يمكنني فيه مراكمة المعرفة بنفس طريقة الأمس، ولكن يمكنني أن أُعيد تنظيم علاقتي بها. أن أقرأ بوعي، وأتذكّر ما هو جوهري، وأبني نظمًا داعمة للذاكرة بدلًا من أن أعتمد عليها وحدها. لربما ليس من الممكن استعادة ذاكرتي القديمة، لكن استعادة معنى المعرفة في حياتي هو التحدي الحقيقي، ولربما الرحلة القادمة الأكثر إثارة.

Read Entire Article