ARTICLE AD BOX

<p>خوسوا دي كاسترو (1908 - 1973) (الصحافة البرازيلية)</p>
من "الجوع" الذي تحدث عنه بصورته الفردية وبأسلوب إبداعي الكاتب النرويجي كنوت هامسن في واحدة من أشهر رواياته وأقساها، إلى الجوع الذي أصدر للحديث عنه بياناً سينمائياً مثيراً المخرج الأميركي اللاتيني غلاوبر روشا، وصولاً اليوم إلى الأخبار التي لا تتوقف عن جوع قاتل أكثر مما تقتل الحروب المدمرة في السودان، ولكن أيضاً في غزة، ولا سيما في هذه الأخيرة حيث يستخدم اليمين الإسرائيلي الحاكم ممثلاً بنتنياهو الجوع نفسه سلاحاً في معركة بات من الواضح أن ضحية الأمس، الإسرائيلي اليوم، يستخدم فيها ما هو أشد ضراوة مما استخدمه جلاده السابق، النازي، للوصول بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، إلى ما سماه هتلر في كتابه البائس "كفاحي"، "الحل النهائي"، للتخلص هذه المرة من القضية الفلسطينية، نعرف أن مشوار مفهوم الجوع في الأزمنة الأكثر جدة، بات مشواراً مرعباً عند بدايات الربع الثاني من القرن الـ21، أي في زمن لم يكن خيل إلى الإنسانية أنه سيحل فعلاً ليكون الجوع من علاماته الأساسية. ومع هذا، لا بد أن نستذكر اليوم، وبعد مضي أكثر من نصف قرن على رحيل المفكر البرازيلي خوسيه دي كاسترو، أنه كان واحداً من أوائل المفكرين العالم ثالثيين الذين فكروا بالجوع كواحدة من الهزائم الكبرى التي منيت بها الإنسانية، وسط كل ضروب التقدم التي عرفها العالم في القرن الـ20. وكان ذلك واضحاً بالنسبة إلى دي كاسترو باكراً منذ ثلاثة أرباع القرن، حين صدرت الطبعة الأولى من كتاب له عنوانه بالتحديد "جغرافيا الجوع".
جغرافيا لموت معلن
قبل 75 سنة من اليوم إذاً، تعرف العالم على نمط جديد من الجغرافيا يدخل تاريخه، حتى وإن كان اسم مؤلف الكتاب الذي احتوى تلك الجغرافيا معروفاً من قبل، ولكن ليس كمؤلف ومناضل، بل بوصفه أول رئيس عرف على نطاق عالمي واسع، لواحدة من أولى الهيئات التابعة لمنظمة الأمم المتحدة التي يفترض بها أن تحتفل اليوم بالذكرى السنوية الـ80 لقيامها، بديلة عن عصبة الأمم، ما أن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها. ولقد كان دي كاسترو في ذلك الحين شخصية مرموقة في العمل العلمي والنضالي في البرازيل وأميركا اللاتينية، ومن هنا جيء به رئيساً لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة. والحقيقة أن تلك المكانة التي باتت له والإمكانات التي توفرت، أضافت إلى خبرته ومعرفته بالعدد الأكبر من ملفات قضية الجوع في العالم، وليس فقط في بلده البرازيل الذي كان تبحره في شؤون الجوع فيها لافتاً، وسيتأكد ذلك، على أية حال، من خلال الجزء الأول من "جغرافيا الجوع" الذي تضافرت فيه ملفات دي كاسترو حول الجوع البرازيلي مع ما استجد لديه من ملفات تتعلق بالقضية نفسها، خلال ترؤسه للمنظمة الدولية. ومن المعروف أن الجزء الأول من "جغرافيا الجوع" كان القسم الأول من مجموعة من خمسة أجزاء تدرس مسألة الجوع في العالم كله، ظلت غير مكتملة ويعلن أنها "تحت الطبع" حتى عام 1973، أي حتى موت المؤلف عن 65 سنة من دون اكتمال المجموعة. ومهما يكن من أمر، لا شك في أن الجزء الأول الذي صدر بالفعل وتلته أجزاء متفرقة، حمل في ثناياه مجمل المشكلات والشروحات الفكرية التي حكمت دراسة دي كاسترو، خالقة ذلك النمط الجديد من الجغرافيا الإنسانية. ولقد قيل دائماً إن قيمة هذا المناضل البرازيلي كانت ستبقى مكتملة حتى ولو اقتصر عمله على ذلك الجزء الأول الذي حقق مكانة كبرى في عز سنوات النضال العالم ثالثي والطلابي، يوم كانت لا تزال للفكر مكانته. ومن هنا لا يبدو غريباً أن يكون الكتاب منسياً اليوم، وأن تكون ذكرى مؤلفه غائبة بينما يزداد الجوع ضراوة وتسيساً وتفاقماً في عالم اليوم، ففي النهاية نحن لا نعيش تلك القيم التي كنا وعدنا بها في تلك الأزمنة المباركة.
خطط أممية مطلوبة
فالحال أن دي كاسترو كان يتوخى من كتابه ونشره، وربما كناتج لتجربته الأممية متضافرة مع تجاربه المحلية، التنبيه، تنبيه العالم بالطبع، إلى أن الوقت حان لصياغة مخطط أممي، غايته محو ما يعتبره تفاوتاً في التغذية العالمية يتجاوز كونه مجرد خلل تقني من مسيرة الإنسان. ومن هنا يرى المؤلف أن لا بد الآن من وضع نوع من جردة حساب تكشف عن الوضع الغذائي في العالم. وهو بدأ تلك الجردة في الجزء الأول الذي نحن في صدده هنا - وسيبقى أشهر الأجزاء وأهمها - وجعل له عنواناً ثانوياً هو "الجوع في البرازيل". وكما يدل العنوان يتناول هذا الجزء قضية الجوع في بلد المؤلف، ولا سيما في المنطقة الأمازونية التي تعتبر على أية حال أكثر مناطق البرازيل، بل العالم كله، خصوبة (!). ففي تلك المنطقة من العالم تنتشر الأدغال الكثيرة التي يصعب التوغل فيها، وانتشار الماء وكل ما هو لازم للزراعة، "ومع ذلك، يخبرنا دي كاسترو، تعيش في تلك المناطق أقوام من الصيد والقنص والزراعات شديدة البدائية التي قد لا يتجاوز إنتاجها مادة المانيوك التي يصنع منها نوع محلي من الخبز". وهنا يفيدنا دي كاسترو بأن الحصة الغذائية اليومية للفرد هناك تقل عن 2000 سعرة حرارية، أي ما يقل بما نسبته 40 في المئة عن الحاجة اليومية الحقيقية للفرد (وهي تتراوح عادة بين 2800 سعرة و3000 سعرة).
غير أن المشكلة ليست هنا فقط، فهنا ثمة الجانب الكمي، لكن هناك أيضاً الجانب النوعي الذي يبدو أكثر خطورة ويتمثل في الافتقار إلى الفيتامينات والأملاح المعدنية افتقاراً خطراً ينتج منه عدد من الأمراض المزمنة، ومنها مثلاً السل الذي يضحي هنا وباء. وفي هذا السياق يتحدث دي كاسترو عن منطقة الشمال الشرقي "السكرية"، حيث تتمكن الغابات المستصلحة من تعميم وجود أراض كثيفة التربة وخصبة، كانت، كما يوضح دي كاسترو، تغذيها بصورة متواصلة أمطار غزيرة. "غير أن الاستعمار البرتغالي تعمد أن يرسخ هناك زراعة أحادية تقوم على إنتاج قصب السكر، مع أن سوء التغذية في المنطقة نفسها لا يزال مستشرياً حتى اليوم، ففي النهاية لايمكن للشعوب أن تعيش من زراعة قصب السكر وحده".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مناطق الجفاف
وإذ يتابع دي كاسترو في "جغرافيا الجوع" هذا التجوال الزراعي التاريخي، يصل بنا إلى مناطق سرتاوو في الشمال، وهي مناطق يغلب على أراضيها شبه جفاف متواصل بفعل لا انتظامية هطول المطر، مما يؤدي إلى دورات من مجاعات شاملة وعنيفة تطاول السكان. بيد أن المؤلف يخبرنا هنا بأن الأوضاع الناتجة من نزوات الطبيعة لايمكنها أن تفسر وحدها ظاهرة الجوع في البرازيل، ففي النهاية "من المؤكد أن سوء التنظيم والإدارة وبشاعة الاستغلال والتقلبات السياسية والأخطاء في التقديرات الاقتصادية، إنما هي الأسباب الحقيقية لاستشراء الجوع. وفي هذا السياق لا يعود غريباً أن يلقي جوسوا دي كاسترو باللائمة على الاستعمار وخفته في التعامل مع شؤون الحياة الخاصة بالسكان الأصليين، بل حتى بمن جاء بهم في ركابه من مستوطنين. هو الذي لم يبد أي اهتمام بما ليس فيه مصلحة ربحية مباشرة له"، ومن المنطقي في النهاية أن يختم صاحب "جغرافيا الجوع" هذا الجزء الأساس من خماسيته، مؤكداً كيف أن مساوئ تلك البنى الموروثة من الاستغلال ذي النمط الاستعماري، لا تزال قائمة ومستشرية حتى أيامنا هذه، مؤبدة هذه الظاهرة التي نجدها في عدد من المناطق البرازيلية والعالم ثالثية أيضاً. وذلكم هو في الحقيقة الدرس الذي أورثنا إياه دي كاسترو، ولكن يبدو أننا لم نستوعبه لا في البرازيل ولا في أميركا اللاتينية، ولا في أية أماكن أخرى كانت خاضعة للاستعمار، ولا تزال تعيش ضروب فشلها المؤسي بعد أكثر من نصف قرن من ذلك العالم الفذ، ومن رحيل الاستعمار.