ARTICLE AD BOX

<p>نسبة كبيرة من الأشخاص بلا مأوى في أميركا من المتسولين (أ ف ب)</p>
تكاد لا تخلو دولة على وجه الأرض من التسول والمتسولين، قيل كثير عن علاقة التسول بالفقر والعوز وإخفاق الأنظمة الاقتصادية وتقصير الرعاية الاجتماعية، وكُتب كثير عن المتسولين وكيف أنهم طيف كامل يشمل المعوزين حقاً والمدعين حقاً وما بينهما، والولايات المتحدة الأميركية ليست استثناءً.
الغالبية العظمى من التصنيفات تضع أميركا على رأس قوائم الأكبر والأقوى والأكثر تأثيراً والأقل تأثراً، اقتصاد وقوة عسكرية واستقرار سياسي، وكذلك نظم رعاية اجتماعية وقوة ناعمة متمثلة في فنون وإعلام وسينما وغيرها تضع أميركا على رأس غالب القوائم.
كل هذا لا يعني أن أميركا بلا تسول وأن شوارع ولاياتها مترامية الأطراف خالية من المتسولين، ولكن منظومة التسول وقصص المتسولين وتركيباتهم تختلف من دولة إلى أخرى، وتتلون بألوان مشكلاتها وأحوالها، وينسج المتسولون قصصهم بحنكة معرفية بالغة وموهبة نفسية واضحة لتحقيق الهدف المرجو، ألا وهو "حسنة قليلة تمنع بلاوي كثيرة".
حسنة قليلة
الحسنة القليلة المتمثلة في دولار أو دولارين أو خمسة، بحسب كرم المعطي ورقة قلبه، لا توجه بالضرورة للإنفاق على العيال السبعة الذين تركهم الأب بعد ما تزوج بأخرى، أو لإطعام الصغير الذي لجأ إلى الشارع هرباً من أبيه المفتري وزوجة أبيه القاسية، أو لعلاج مريض الكلى والكبد والمريء والقلب والسكري والضغط الذي يجول الميادين بروشتة مفبركة، ولكنها قد تذهب لشراء قدح من الجعة أو لإطعام الكلب أو لشراء سندوتش من البرغر أو لجمع المبلغ المطلوب ليشتري خيمة بلاستيكية ينصبها في المتنزه العام، إضافة بالطبع إلى قائمة القصص الكلاسيكية التي يؤدي فيها المرض والبطالة والفقر وغيرها أدوار البطولة.
البطل الحقيقي في مشهد التسول في أميركا، الذي لا تعج به الشوارع والميادين، وإن كان يختلف من ولاية ومدينة لأخرى حيث ينتشر بشكل أكبر في مدن مثل نيويورك وواشنطن وكاليفورنيا ولوس أنجليس وسان خوزيه، إنها المدن الكبيرة، ذات نسب البطالة والتشرد والفقر المرتفعة، والكثافة السكانية العالية، وكذلك ذات نسب الأغنياء والمقتدرين الأعلى.
البيض غالبية
وعلى رغم غياب الأرقام والإحصاءات الخاصة بالتسول، فإن التسول وثيق الصلة بالتشرد، بحسب التقرير السنوي لوزارة الإسكان والتنمية الحضرية، فإن 23 بين كل 10 آلاف أميركي، أي نحو 772 ألف شخص، بلا مأوى أو مرَّ بتجربة التشرد، وبين عامي 2022 و2024 زادت نسبة الأشخاص بلا مأوى بنسبة 32.5 في المئة.
وتجدر الإشارة إلى أن "المشرد" بحسب وزارة الإسكان، يشمل تعريف المشرد كلاً من: الأشخاص الذين يعيشون في مراكز إيواء طارئة، وتلك التي تستضيف الأشخاص المصابين بأمراض نفسية وعصبية شديدة، وكذلك الذين يعيشون في العراء، بما في ذلك الذين يتخذون من سياراتهم أو سيارات الآخرين مأوى، أو في مبان مهجورة وغيرها من الأماكن التي لا تعد صالحة للعيش البشري، كذلك الأشخاص الذين يعيشون مع أصدقاء لا يستطيعون إعاشتهم لأكثر من 14 يوماً.
نسبة كبيرة من الأشخاص بلا مأوى في أميركا تتسول، أو كما يسمونه "مد المقلاة" (Panhandling) طلباً للمال، إذ يفضل كثر عدم مد الأيدي طلباً للمال. الأسباب كثيرة، أبرزها هو حفظ جزء من ماء الوجه، ويكفي أن طلب المال من الغرباء أمر مهين، وبينهم من يرهقه جسدياً مد الذراع والتفوه بعبارات مطالبة بالمال طوال الوقت، فيستعين بصحن أو مقلاة قديمة ويضعها أمامه، وقد يتركها في المكان الذي يجلس أو يقيم فيه على الرصيف أو في متنزه عام أو ما شابه، ويذهب إلى مكان ما ويعود ليجد أن الطيبين والطيبات تركوا له حفنة من الدولارات والسنتات أثناء غيابه، ومنهم من يخشى انتقال الأمراض، لا سيما الجلدية والفيروسات إليهم من المعطي، نعم! هذه حقيقة قالها أحدهم.
الأفكار المسبقة والصور النمطية تجعلان بعض الناس يعتقد أن المتسولين في الغالب ليسوا من البيض، لكن هذا اعتقاد خاطئ، وصورة غير حقيقية تعكس نمطاً قديماً من العنصرية، ولأنه لا توجد أرقام خاصة بالمتسولين، فإن أرقام المشردين تفي بالغرض، بحسب موقع "ستاتيستا" المعني بالبحوث والإحصاءات، بلغ عدد المشردين البيض في أميركا نحو 325 ألفاً، وهو العدد الأكبر بين جميع الأعراق، فيما بلغ عدد المشردين من السود نحو 244 ألفاً.
كلبي جوعان وكذلك أنا
لكن الجميع يرفع اللافتات التي يحمل بعضها قدراً ليس قليلاً من التفكير والإبداع، بغرض التأثير والإنجاز، "كلبي جوعان وكذلك أنا"، و"لا عمل، لا أسرة، لا أمل"، "أوقات عصيبة أحاول فقط البقاء على قيد الحياة" وغيرها يحملها المتسولون أو يضعونها في أماكن جلوسهم أو إقامتهم في الطرقات والمتنزهات.
جهات رسمية، وكذلك منظمات وجمعيات أهلية وخيرية عدة تناشد الأميركيين والزوار عدم إعطاء المتسولين مالاً، وتضع مقترحات بديلة مثل إعطائهم وجبات ساخنة، أو قسائم غير قابلة للاسترجاع لمحلات بقالة أو مطاعم، أو التبرع للجمعيات العاملة في مجال مساعدة المشردين والفقراء، ومنها ما يوفر لهم مراكز رعاية نهارية ليأكلوا وجبة ساخنة ويستحموا ويشاهدوا قليلاً من التلفزيون ويتحدثون مع اختصاصيين اجتماعيين، وربما يُكشف عليهم من قبل أطباء متبرعين، وعلى رغم ذلك يظل هناك من يعطيهم قدراً من المال على أمل ألا يُساء استخدامه لشراء المخدرات.
مخاوف معلومة
المتسولون على علم بمخاوف الجهات الرسمية والأهلية والشعبية من وصول المال إلى أياديهم خوفاً من سوء الاستخدام، لذلك يلجأ بعضهم إلى سبل مرحة أملاً في إقناع المارة بإعطائهم المال، فمثلاً، هناك من يرفع هذه اللافتة "لا أريد مالاً، فقط وجبة ساخنة ومشروباً، ولو لم يكن لديك الوقت للشراء، ثق بي وأعطني المال"، ومنهم من كتب "إذا كنت تعتقد أن دولارين أو ثلاثة دولارات تكفي لشراء المخدرات فأنت مخطئ، هذا بالكاد ثمن شريحة خبز بلا حشو".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويظل هناك من يتحلى بقدر أوفر من الصراحة وشجاعة الاعتراف، "لن أكذب، أحتاج إلى بعض المال لشراء الحشيش"، واللافت أن هناك من يقدر هذه الشجاعة، أو يعي حاجة من اعتاد الحشيش على تعاطيه، أو يؤمن بأن الحشيش ليس ضاراً أو في الأقل أقل ضرراً من السجائر، فيعطيه بسخاء.
هالات حزبية
وجه آخر من التسول يضفي ألواناً سياسية وهالات حزبية على طالبي قليل من المال وبعض من الطعام وحبذا قدح من الشراب، إنه وجه المهاجرين واللاجئين الذي استُخدم جزء غير قليل منه لترجيح كفة سياسات على حساب أخرى، وتوجيه اتهامات اقتصادية والتراشق بالأعباء الاجتماعية.
الحدود الجنوبية لأميركا ظلت على رأس برنامج الرئيس دونالد ترمب الانتخابي، ولا تزال موضوعاً رئيساً كلما ألقى كلمة أو قال تصريحاً، فقد انتقد مراراً وتكراراً أداء إدارة الرئيس السابق جو بايدن في ما يختص بالحدود، وحين أعلن الأخير انسحابه من سباق الترشح، وتقدمت نائبته كامالا هاريس بدلاً منه، قال إنها "سمحت بتدفق 21 مليون مهاجر غير شرعي إلى البلاد".
وعلى رغم أن الأرقام التي طرحها ترمب لم تكن مصحوبة بمصادر، فإن الأرقام الرسمية تقول إن أميركا شهدت نحو 10 ملايين محاولة هجرة خلال حكم بايدن، منها 8 ملايين جاءت عبر الحدود مع المكسيك.
هذه الأعداد الضخمة تحولت إلى أداة تراشق بين الجمهوريين والديمقراطيين، حتى إن جهوداً ديمقراطية بذلت في الأشهر الأخيرة من فترة بايدن لضبط الحدود والسيطرة على أعداد المهاجرين واللاجئين.
مهاجرون ولاجئون
الربط بين أعداد المهاجرين الضخمة وتصاعد ظاهرة التسول تحولت إلى أداة تراشق سياسي حادة قبل أشهر، في عهد بايدن شُيدت خيمة إيواء لأعداد كبيرة من المهاجرين، نسبة كبيرة منهم من العائلات، معظمهم وصل عبر الحدود الجنوبية، وذلك في أرض تابعة لمطار "فلويد بنيت" في نيو يورك.
وبدأت أصوات المعترضين من سكان المناطق والأحياء القريبة تعلو بعد طول مدة بقاء الأسر المهاجرة في الخيام، وتسلل كثير منهم إلى الخارج، وطرق الأبواب طلباً للطعام والشراب والملابس والمال، بعض من السكان تعاطف معهم، لكن زيادة الأعداد التي سماها بعضهم "المهاجرين المتسولين"، مع تصاعد مخاوف تعرض البيوت وسكانها لأخطار أمنية لم يسلط الضوء فقط على الأزمة، لكن تحول إلى منصة شد وجذب حول التعامل مع ملفات التسول والهجرة والأمن بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
اليوم، وعلى رغم قلة أعداد المتسولين من المهاجرين، وذلك في ضوء تقلص الأعداد كثيراً منذ تسلم ترمب مقاليد الإدارة الجديدة، وكذلك إغلاق كثير من المخيمات التي كانت تؤويهم في مدن عدة، فإن بعضهم لا يزال مضطراً إلى "مد يده"، ونقص الإمكانات في أماكن الإيواء لحين البت في أمرهم، أو جمع المال اللازم لعودتهم من حيث أتوا لا سيما في ظل حملات الترحيل والتدقيق في الأوراق الرسمية والإقامة لا يزال يدفع بعضهم إلى التسول، ولكن بأعداد أقل، وفي أماكن بعيدة من أعين الشرطة.
الحق في التسول
المثير هو أن الدستور الأميركي "يحمي" التسول، وبحسب الاتحاد الأميركي للحريات المدنية (مؤسسة أميركية تعنى بالحريات)، قضت المحكمة العليا الأميركية بأن التعديل الأول في الدستور الأميركي يحمي ويشمل "الطلبات الخيرية لجمع التبرعات"، ولذلك، يعد مد المقلاة طلباً للمال أو الالتماس أو التسول شكلاً من أشكال حرية التعبير المحمية بموجب التعديل الأول.
وعلى رغم ذلك فإن بحوثاً ودراسات قانونية عدة تدرس حدود حرية التعبير حين تتعدى على حريات الآخرين، ومنها حرية المتسولين في طلب المال أو الطعام لا سيما بإلحاح أو بطرق تنتهج العنف أو التهديد في مقابل حرية المارة في التعبير عن ضيقهم وخوفهم وقلقهم، أو حقهم في السير والتحرك من دون منغصات، كما يدرس آخرون الحد الفاصل بين حرية التعبير عبر التسول والسلوك السيئ، ووصل الأمر إلى درجة تخصيص دراسات للبحث في قواعد وإمكانات تنظيم حرية التعبير من دون تقييدها.
يشار إلى أن بعض المتسولين لا يتوانى عن شتم من يرفض إعطاءه المال أو يتحجج بعدم حمله "فكة" أو يعرض شراء سندوتش، لا سيما لو وُجد كلاهما في شارع هادئ أو وقت متأخر من الليل أو الصباح حيث حركة المارة خفيفة ووجود الشرطة غير مكثف.
من جهة أخرى لا يمضي التسول اعتباطاً أو من دون دراسة، وبما أنه نشاط يحوي تعاملات مادية، فقد أجرى باحثون أكاديميون عدداً من الدراسات عن "اقتصادات التسول"، تشير إحدى هذه الدراسات وعنوانها "كم يكسبون؟ مراجعة منهجية للدخل الناتج من التسول" (2021)، إلى أن العائد الاقتصادي من التسول تراوح في أميركا عام 2020 بين دولارين و16 دولاراً في الساعة، وبين 20 و60 دولاراً في اليوم، وبين 200 و500 دولار في الشهر، إلا أن الأرقام تتفاوت بشدة باختلاف الولايات والمدن ومكانها على خريطة توزيع الدخل، ومستوياته، وحجم الصناعات والأنشطة التجارية والاقتصادية والزراعية، والموارد الطبيعية، والتعداد وتركيبة السكان، كل ما سبق يؤثر في حجم التسول ونوعية المتسولين وقوائم مطالبهم.