ARTICLE AD BOX
في ظل النزاع الحاد بالسرديات الضمنية والمعلنة الذي يأخذ طابعًا رسميًا أو حكوميًا بين سلطة وشعب بمكوناته المختلفة، لا يمكن تجاهل الخطاب الشعبي الجاد والمسؤول الذي يحاول تطويق الشرر المشتعل أو التخفيف منه في أحسن الأحوال.
على الرغم من جدية وإيجابية مساعي دعاة الخطاب التوفيقي بين الناس الواقعين ضمن الاستقطابات الحادة، يتسم هذا الخطاب بالانفعالية والالتفاف على العبارات والألفاظ ومحاولة التنصل من الاتهامات، بل يتم السعي إلى رأب الصدع بين الأطراف المحتدة، والتي تستعين بفائض القوة لتواجه الآخر باعتاره متهمًا وليس شريكًا.
تبدو واضحةً محاولات التبرير المكررة التي تسبق كل نقد، كما لا يمكن إنكار المقدمات والاعترافات المسبقة التي تتكامل لتقدم صورة قادرة على أن تغفر لكل راغب بالنقد تجرؤه على النقد، أو حتى تجرؤه على تقديم خلاصات مختلفة، أو تصورات مستقبلية مختلفة، لذلك تبدو كل المحاولات الناقدة متلعثمة لغويًا، وقاصرة سياسيًا، ومنفعلة تفاعليًا.
إن السعي لتقديم شهادات البراءة الثورية، أو للترويج لتاريخ شخصي أو عائلي تقاطعي يقف بنفس المسافة بين الجميع سابقًا وحاليًا ولاحقًا، يوحي تمامًا بانعدام فرص تقبّل الرأي المختلف أو تقبّل الآراء النقدية الملحة لمواجهة تمترس فوقي يقدم نفسه أغلبيةً غير محققة فعليًا إلا بوصولها وتحكمها بالسلطة الحالية.
ماذا يعني أن نشكر شريكًا طبيعيًا في الوطن فقط لأنه من الأغلبية حسب ما يحاولون تعميمه، فقط لأنه تضامن مع ضحية من أقلية حسب توصيفهم لخريطة الانتماءات المستحدثة أو المتلاعب بها بهدف التشكيك فيها وبكل مساعيها الطبيعية للاندماج في واقع وطني عام؟
تقضي البديهيات بأن يتضامن البشر مع بعضهم في الملمات والحوادث، والأحرى أن نشهد تضامنًا وطنيًا لأنه سكة السلامة الوحيدة. المشكلة هي في اعتبار الفترات الانتقالية مسارات انتقامية وتغير في خريطة الانتماءات وفي خريطة الواجبات الوطنية البديهية.
المشكلة في اعتبار الفترات الانتقالية مسارات انتقامية وتغير في خريطة الانتماءات وفي خريطة الواجبات الوطنية البديهية
ماذا يعني أن تنهض فجأة السرديات التاريخية لعائلات ومجموعات ومكونات بكاملها لتؤكد أنها جزء من النسيج الوطني العام! لماذا التأكيد هنا؟ الدستور وما يفرزه من قوانين وطنية هي الفيصل الوحيد الضامن والمسؤول، وليس السرديات المحمومة الساعية لإثبات أن أصحابها تاريخيًا كانوا هنا مع الجميع، وما زالوا حاضرين أيضًا بإرادة العيش المشترك والانتماء الطبيعي والوطني.
ما جدوى وقوعهم في وضع يترجون فيه موافقة ورضا الجميع، وكأنه حق محصور بموافقة الأغلبية غير دقيقة التوصيف! منذ متى وماذا يعني أن يشعر الشخص أو جماعة محددة بضرورة إثبات انتمائهم عبر ترجي التعاطف وتسوّل القبول العام؟ إنها واقعية محبطة، لكنها خطيرة وتؤكد اهتزاز الهوية الوطنية الجامعة، واهتزازها لا يعني فقط اهتزاز الأمن الشخصي للأفراد ولا تغييب الاعتراف العلني والقانوني، بل يعني أن هذا الاعتراف كان موجودًا بمنطق محسوب على الغلبة السابقة! وكأن كل العهود هي تبادل لمواقع الغلبة!
أي اهتزاز هذا الذي ينسف أمان فئات معينة وحاضرها ومستقبلها وكأن المطلوب ليس فقط الولاء، بل إبداء كل تفاصيل الولاء وأولها الصمت والإذعان والموافقة على تغييب السرديات الوطنية السابقة والسعي لتعميم سردية واحدة، خارج الخريطة الوطنية العامة، وخارج الحق والواجب في التشاركية، وخارج الحقوق الطبيعية البديهية.
من الضروري جدًا لملمة الخريطة الوطنية، ووقف أي خطر يهدد الآخرين المتهمين أو المستبعدين حاليًا، كي لا يضطروا لإعادة ترتيب أولوياتهم في محاولتهم للحماية عبر الانغلاق أو الاستنكاف عن المشهد العام.
تكمن آليات التشاركية في الحفاظ على البديهيات الوطنية بتحديد معنى الأغلبية التي حتى لو كانت عددية فقط! ما مدى فعاليتها؟ ما مدى انفتاحها على المرحلة الانتقالية ووجوه السلطة الجديدة؟ إن قراءة متأنية وواقعية وبديهية تُسقط توصيف الأغلبية العددية قوةً فاعلةً ومركزيةً، بسبب أن الأغلبية الفعلية هي الأغلبية الصامتة التي خرجت عن دائرة الفعل سابقًا وحاليًا، فقط لأنها لا تمتلك المواطنية البديهية المستحقة، التي يجرى التلاعب بها دومًا وبتواطؤ إقصائي لا وطني.