ARTICLE AD BOX
في الصورة المأخوذة من اعتصام أمام نقابة الصحافيين في القاهرة، تظهر الدكتورة ليلى سويف جالسةً على الدرج بالكوفية الفلسطينية، تمسك بجسدها المنهك كما لو كانت تمسك بحقيقةٍ لم تعد تجد من يصغي إليها. لا ترفع صوتها، لا تلوّح بأيّ شعار. الانكماش الواضح في هيئتها لا يوحي بانكسار، هو قرار. قرار الوجود في المساحة الأوضح؛ الجسد.
ليلى سويف في هذه الصورة ليست حاضرةً فقط أمّاً مضربة عن الطعام من أجل حرية ابنها، علاء عبد الفتاح، هي صدى متجدّد لذاكرة جماعية تتخطّى حدود القضية الفردية. وجودها هناك جاء في يوم إحياء النكبة الفلسطينية، ووقوفها في الصفّ الأمامي للدفاع عن غزّة، في لحظة عربية تعاني من نسيان جماعي، يعيد تعريف الصورة: امرأة واحدة تنهض بجسدها نيابةً عن غياب جماعي أوسع. حين تُنهككِ أيّام طويلة من الإضراب، وتختارين رغم ذلك أن تكوني في الفضاء العام لا في السرير، فالمسألة لم تعد مرتبطةً بالمطالبة، هي إعادة رسم خطّ الفعل. الجلوس ذاته يصبح فعلاً معلّقاً بين الحياة والموقف. الصورة لا تحتاج إلى تعليق إضافي، فكلّ مَن فيها ينظر إلى الأمام. أمّا ليلى، فهي هناك لتطرح سؤالاً بصرياً بلا إجابة جاهزة. من هذا العراء، تتقاطع صورتها مع صورة "أمّ سعد" في رواية غسّان كنفاني.
امرأتان في فضاءَين مختلفَين، لكنّهما تتحرَكان بخيط واحد، كلتاهما دفعتا بابنيهما إلى الجهة التي تعتقد أنها الأحقّ بالكرامة. في الأولى، ابن يصعد الجبل لأنه لا مكان له في الخيمة. في الثانية، ابن يُسجَن لأن صوته سيكون أخطر من سلاح. الجسد الذي يظهر في الصورة، مثل جسد "أمّ سعد"، لا يشرح الموقف، يحتمله. أمّ سعد لم تكتب بياناً، كما أن ليلى لا تحيل حضورها إلى خطاب. الوعي بالفعل يأتي من طريقة تموضعهما في العالم. اختارت "أمّ سعد" الانحياز الكامل لصراع لا تملكه، لكنّه يعبّر من خلالها. وليلى تفعل الشيء نفسه، حين تنسحب من منطق الطعام والنظام واليومي، لأنها تعرف أن كلّ ما قيل لم يعد كافياً لإيقاف الظلم. العلاقة بين المرأتَين لا تقوم على تشابه مسارات، هي اشتراك في نوع الصمت. هو صمت لا يُقاس بالعجز عن التعبير، هو الإصرار على رفض المشاركة في أيّ حلّ جاهز. في لحظة معيّنة، يصبح الجوع، والاحتجاج، والمواصلة، أفعالاً أكثر وضوحاً من البيانات كلّها.
تبدو هيئة ليلى في الصورة ضوءاً خافتاً في وجه عمارة البيروقراطية. السلطة التي تقف ثابتةً بشعاراتها وقوانينها، تهتزّ حين تواجه فرداً لا يفاوض بجسده، ينسحب به. هشاشة هذا الجسد لا تضعف الرسالة، تكشف هشاشة النظام نفسه الذي لا يحتمل فعلا فردياً يصرّ على المعنى. هذه المفارقة، كما تسمّيها حنة أرندت، هي لحظة "الفراغ المؤسّسي"، إذ تكشف السلطة عجزها أمام من لا يطالب، يرفض الدخول في صيغة الطلب. الصورة تنقل مشهداً مكتملاً من دون تعبيرات زائدة. ليلى لا تنتظر دعماً، كما أن "أمّ سعد" لم تنتظر أن يحتفل أحد بخياراتها. كلّ منهما ذهبت إلى حافّة المشهد، ووقفت هناك، لأن المركز أصبح عاجزاً عن إنتاج عدالة قابلة للتصديق. حين تختار الصمت المقيم، فأنت لا تنسحب، تعيد ترتيب شروط المعنى. بهذا الجلوس، بهذا الجوع، بهذا الصبر، تحوّل ليلى سويف لحظةً خاصّةً قضيةً عامّةً، وتُدخل الكرامة الفردية في المشهد العام من دون أن تطلب إذناً من أحد.. وهكذا، تخرج من الصورة، لا أيقونةً، هي اختبار مفتوح. ليس للجمهور، للمنظومة كلّها.
وفيما نُقلت إلى المشفى بعد تدهور حالتها، السلامة لها، والسلام للذين لا يزالون يختارون الجلوس في وجه الغياب.
