الحرب العالمية الثانية مستمرة حتى اليوم

1 week ago 5
ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">جنود أميركيون ينزلون على الشاطئ في "دي داي" قرب فيرفيل سور مير، فرنسا، عام 1944 (رويترز)</p>

نادراً ما تكون مسارات التاريخ منظمة أو واضحة. فالعصور تتداخل، وتستمر قضايا عالقة من فترة سابقة بالتأثير في ما يليها. وكانت الحرب العالمية الثانية حرباً لا مثيل لها من حيث مدى تأثيرها في حياة الشعوب ومصائر الأمم، فقد كانت مزيجاً من صراعات متعددة، شملت كراهيات عرقية وقومية تفاقمت بعد انهيار أربع إمبراطوريات، وإعادة رسم الحدود خلال مؤتمر باريس للسلام الذي أعقب الحرب العالمية الأولى. ورأى عدد من المؤرخين أن الحرب العالمية الثانية كانت مرحلة من حرب طويلة امتدت من عام 1914 إلى عام 1945، أو ربما امتدت إلى حين انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، أي إنها كانت حرباً أهلية عالمية، أولاً بين الرأسمالية والشيوعية، ثم بين الديمقراطية والديكتاتورية.

ومما لا شك فيه أن الحرب العالمية الثانية جمعت خيوط التاريخ العالمي [وحدت مسارات وأجزاء متعددة من التاريخ العالمي]، نظراً إلى امتدادها الواسع النطاق وتسريعها لنهاية الاستعمار في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. ومع ذلك، وعلى رغم مشاركة الجميع في هذه التجربة العالمية ودخولهم في النظام الذي بني بعدها، فإن كل دولة شاركت في الحرب نسجت سرديتها الخاصة عن هذا الصراع العظيم وتمسكت بها.

حتى مسألة نقطة بداية الحرب لا تزال موضع جدل. ففي الرواية الأميركية، بدأت الحرب فعلياً عندما دخلت الولايات المتحدة الصراع بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربور خلال السابع من ديسمبر (كانون الأول) 1941، ثم إعلان الديكتاتور الألماني أدولف هتلر الحرب على الولايات المتحدة بعد أيام قليلة. وفي المقابل، يصر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن الحرب بدأت خلال يونيو (حزيران) 1941، عندما غزا هتلر الاتحاد السوفياتي، متجاهلاً الغزو السوفياتي والنازي المشترك لبولندا خلال سبتمبر (أيلول) 1939، الذي يمثل بداية الحرب بالنسبة إلى معظم الأوروبيين. ومع ذلك، يرى بعض أن بداية الحرب تعود إلى ما قبل ذلك. فبالنسبة إلى الصين، بدأت عام 1937 مع الحرب الصينية اليابانية، أو حتى قبل ذلك مع الاحتلال الياباني لمنشوريا عام 1931. وكثير من اليساريين في إسبانيا مقتنعون بأنها بدأت عام 1936 عندما أطاح الجنرال فرانسيسكو فرانكو بالجمهورية، مطلقاً شرارة الحرب الأهلية الإسبانية.

هذه الرؤى العالمية المتضاربة للتاريخ لا تزال تشكل مصدر توتر وعدم استقرار في السياسة العالمية. فبوتين ينتقي من التاريخ الروسي ما يناسبه، جامعاً بين تمجيد تضحيات الاتحاد السوفياتي في "الحرب الوطنية العظمى"، وهو الاسم الذي تعرف به الحرب العالمية الثانية في روسيا، وأفكار المنفيين من القياصرة الروس البيض الرجعية بعد هزيمتهم على يد الجيش الأحمر الشيوعي في الحرب الأهلية الروسية بين عامي 1917 و1922. وتشمل هذه الأفكار مبررات دينية للتفوق الروسي على كامل مساحة أوراسيا "من فلاديفوستوك إلى دبلن"، كما وصفها ألكسندر دوغين عراب بوتين الأيديولوجي، إلى جانب كراهية عميقة متجذرة لأوروبا الغربية الليبرالية. وبدأت مثل هذه الأفكار في الانتشار أيضاً داخل الدائرة المقربة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

لقد أعاد بوتين ترميم صورة الزعيم السوفياتي في زمن الحرب العالمية الثانية جوزيف ستالين الذي كان مسؤولاً مباشرة، كما قال الفيزيائي والمعارض السوفياتي أندريه ساخاروف، عن وقوع عدد من الضحايا والوفيات يفوق بالملايين الأعداد المنسوبة إلى هتلر. ويصل الأمر بالرئيس الروسي إلى حد الإصرار على أن الاتحاد السوفياتي كان بإمكانه الانتصار على ألمانيا النازية بمفرده، على رغم أن ستالين نفسه وغيره من القادة السوفيات اعترفوا سراً بأن الاتحاد السوفياتي لم يكن ليصمد لولا المساعدة الأميركية. كما أدركوا أن حملة القصف الاستراتيجية الأميركية-البريطانية ضد المدن الألمانية أجبرت الجزء الأكبر من سلاح الجو الألماني على العودة إلى الداخل من الجبهة الشرقية، مما منح السوفيات تفوقاً جوياً. والأهم من ذلك، يرفض بوتين الاعتراف بأهوال الحقبة الستالينية. وقد أخبرتني ماري سواميس، ابنة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل خلال عشاء عام 2003، بأن تشرشل سأل ستالين خلال لقاء غير رسمي في أكتوبر (تشرين الأول) 1944 عن أكثر ما يندم عليه الزعيم السوفياتي في حياته. فأخذ ستالين لحظة للتفكير قبل أن يجيب بهدوء "قتل الكولاك"، أي الفلاحين مالكي الأراضي. وقد بلغت هذه الحملة ذروتها في المجاعة المفتعلة داخل أوكرانيا بين عامي 1932 و1933، المعروفة بالهولودومور (أي الموت جوعاً)، التي تسبب فيها ستالين بمقتل أكثر من 3 ملايين شخص، مما أدى إلى زرع كراهية عميقة لموسكو لدى عدد من الناجين وذريتهم.

واستطراداً، أنتجت الحرب العالمية الثانية أيضاً توازناً غير مريح في الغالب بين أوروبا والولايات المتحدة. فطموحات هتلر للهيمنة أجبرت المملكة المتحدة على التخلي عن دورها المزعوم الذي نصبته لنفسها كشرطي العالم، واللجوء إلى الأميركيين طلباً للمساعدة. وكان البريطانيون فخورين حقاً بدورهم في تحقيق النصر النهائي للحلفاء، لكنهم حاولوا إخفاء مرارة تراجع نفوذهم العالمي من خلال ترديد عبارة مأثورة، مفادها أن المملكة المتحدة تمكنت من "لعب دور يفوق وزنها" [استطاعت ملاكمة خصم يفوق فئة وزنها أي إنها تفوقت على منافسين أقوى] في الحرب، ومن خلال التمسك "بعلاقتها الخاصة" مع الولايات المتحدة. وكان تشرشل قلقاً من احتمال انسحاب القوات الأميركية من أوروبا بعد نهاية الحرب في المحيط الهادئ عام 1945. وعلى رغم أن المواقف الأميركية ظلت تتأرجح بين الرغبة في لعب دور عالمي نشط من جهة، والانعزالية من جهة أخرى، فإن التهديد من موسكو ضمن بقاء واشنطن منخرطة بعمق في أوروبا إلى أن انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991.

اليوم، تدخل أول حرب قارية كبرى في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية عامها الرابع، مدفوعة جزئياً بقراءة بوتين الانتقائية للتاريخ الروسي، في حين تهدد النزاعات الدامية في الشرق الأوسط وأماكن أخرى بالاتساع أكثر. وخلال الوقت نفسه، يبدو أن إدارة ترمب تتخلى عن دور الولايات المتحدة القيادي العالمي في لحظة من التخبط والارتباك. قبل 80 عاماً، مهدت نهاية الحرب العالمية الثانية الطريق لنظام دولي جديد قائم على احترام السيادة الوطنية والحدود. لكن الآن، قد يكون الوقت حان لدفع ثمن باهظ نتيجة التردد الأميركي، والتهاون الأوروبي، والنزعة الانتقامية الروسية.

أكثر من مجرد رقم

انطبعت القسوة المفرطة للحرب العالمية الثانية في ذاكرة أجيال عديدة. فقد كانت أول صراع حديث يقتل فيه مدنيون بأعداد تفوق أعداد المقاتلين بكثير. ولم يكن ذلك ممكناً إلا من خلال نزع الصفة الإنسانية عن العدو [تجريد الأعداء من إنسانيتهم] بدوافع أيديولوجية، من خلال القومية التي بلغت ذروتها والعنصرية التي روج لها على أنها فضيلة من جهة، وصراع الطبقات اللينيني الذي دعم إبادة جميع صور المعارضة من جهة أخرى (ومن اللافت أنه بعد الحرب، سعى الدبلوماسيون السوفيات إلى منع ذكر الصراع الطبقي، بما فيه القتل الجماعي الذي ارتكبه الاتحاد السوفياتي ضد الأرستقراطيين والبرجوازيين والفلاحين مالكي الأراضي، ضمن اتفاق منع الإبادة الجماعية التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1948).

في المجمل، لقي نحو 85 مليون شخص حتفهم في الحرب العالمية الثانية، ويشمل هذا الرقم أولئك الذين فارقوا الحياة بسبب المجاعة والأمراض. لقد قتلت ألمانيا النازية قرابة 6 ملايين يهودي، إلى جانب ضحايا آخرين، في الهولوكوست. وفقدت بولندا نحو خمس سكانها، أي ما يقارب أيضاً 6 ملايين شخص. أما الصين فقد فقدت أكثر من 20 مليوناً، معظمهم ماتوا جوعاً أو مرضاً لا في ساحات المعارك. وتراوح تقديرات عدد قتلى الاتحاد السوفياتي بين 24 و26 مليوناً، كثير منهم ماتوا دون داع. وكان ستالين عام 1945 مدركاً أن العدد تجاوز 20 مليوناً، لكنه لم يعترف إلا بثلث ذلك الرقم في محاولة لإخفاء حجم الكارثة التي تسبب بها لشعبه. وأشار ديفيد رينولدز، الباحث في العلاقات الدولية، إلى أن ستالين "استقر على رقم 7.5 مليون لأنه بدا بطولياً بما فيه الكفاية، من دون أن يكون إجرامياً بصورة صادمة".

لقد جمعت الحرب العالمية الثانية خيوط التاريخ العالمي معاً

 

لا يكفي أن نتذكر الضحايا الذين طمست هوية كثر منهم عمداً على يد قاتليهم. أما بالنسبة إلى الناجين، سواء كانوا أسرى حرب أو مدنيين محتجزين في المعسكرات، فقد غير الصراع حياتهم بطرق لا يمكن حصرها. وغالباً ما كان الضحايا الأوائل هم أولئك الذين استسلموا لمصيرهم. بينما كان الناجون على الأرجح هم أولئك الذين تمتعوا بعزيمة صلبة للعودة إلى عائلاتهم، والتمسك بمعتقداتهم، أو الشهادة على جرائم لا توصف.

لم يتمكن عدد من الجنود الأسرى الآخرين من العودة إلى ديارهم. فجنود الجيش الأحمر السوفياتي الذين جندوا قسراً في الجيش الألماني اعتقلوا وهم يرتدون الزي الألماني في فرنسا، وسلموا إلى الضباط السوفيات الذين أعدموا القادة المشتبه فيهم داخل الغابات قبل نقل البقية إلى الاتحاد السوفياتي. هناك، حكم على الجنود بالعمل القسري في الشمال المتجمد. وبعد أيام قليلة من استسلام ألمانيا، أمرت القوات البريطانية، في المنطقة الخاضعة لولايتها داخل النمسا، بتسليم أكثر من 20 ألف يوغوسلافي معاد للشيوعية إلى السلطات الشيوعية اليوغوسلافية، التي أعدمتهم ثم دفنتهم داخل مقابر جماعية. وسلمت القوات البريطانية إلى السلطات السوفياتية جماعات من القوزاق الذين كانوا مواطنين سوفيات لكنهم قاتلوا إلى جانب ألمانيا. ومن المرجح أن الحكومة البريطانية كانت تدرك المصير القاسي الذي ينتظر هؤلاء الجنود، لكنها خشيت أن يؤدي إطلاق سراحهم إلى احتجاز السلطات السوفياتية لأسرى الحرب البريطانيين الذين حررهم الجيش الأحمر في بولندا وشرق ألمانيا. كذلك، اعتقل الجيش الأحمر 600 ألف جندي ياباني شمال الصين ومنشوريا، وأرسلوا جميعاً إلى معسكرات عمل في سيبيريا، حيث ماتوا وهم يؤدون أعمالاً شاقة.

وعلى مدى عقود بعد الحرب، بقيت ذكراها حية في نفوس أولئك الذين عاشوها. فقد شكل النظام العالمي بعد الحرب على يد أجيال كان هدفها منع تكرار مثل هذه المأساة. لكن بالنسبة إلى أولئك الذين لم يعايشوا الصراع وينظرون إليه من زمننا الحاضر [بلا إحساس حقيقي بمعناه]، فقد يكون عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية مجرد رقم، إذ من الصعب استيعاب حقيقة موت عشرات الملايين. وفقدان هذا الرابط المباشر مع الماضي يعني فقدان العزيمة المشتركة التي حافظت، على مدار 80 عاماً، على سلام متواصل بين القوى العظمى، وإن كان غير مكتمل بصورة كبيرة [على رغم عيوبه].

القتالات التي لم تنته

لقد تركت الحرب العالم مكاناً مختلفاً تماماً. وفي الدول المتحاربة، لم تسلم من آثار الحرب إلا أرواح قليلة. وكثير من النساء اللاتي فقدن أزواج المستقبل في المعارك لم يتزوجن قط ولم ينجبن أطفالاً، بينما وجدت أخريات أن الرجال العائدين لم يتمكنوا من تقبل حقيقة أن النساء قد تولين إدارة كل شيء في غيابهم، مما جعلهم يشعرون بأنهم أصبحوا بلا فائدة. وفي الواقع، كان رد الفعل الأقوى في أوروبا القارية. ففي ألمانيا، علم رجال كانوا أسرى أثناء الحرب، للمرة الأولى عن حالات الاغتصاب الجماعي التي ارتكبتها في الغالب قوات الجيش الأحمر. وشعروا بالمذلة لأنهم لم يكونوا هناك للدفاع عن نسائهم، ولم يتمكنوا من تقبل فكرة أن النساء واجهن هذه الصدمة بالطريقة الوحيدة الممكنة، وهي الحديث عنها في ما بينهن. وفي فرنسا وغيرها من الدول التي احتلت، تساءل الرجال العائدون من معسكرات الاعتقال والعمل القسري في ألمانيا كيف تمكنت النساء، اللاتي لم يكن لديهن أي مصدر دعم، من البقاء على قيد الحياة، وبدأوا يشكون في علاقاتهن مع جنود العدو أو تجار السوق السوداء. ليس من المستغرب أن ردود الفعل هذه أدت إلى فترة من التراجع الاجتماعي استمرت خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الـ20.

استمر الصراع السياسي العنيف حتى بعد انتهاء الأعمال العدائية. وخلال أغسطس (آب) 1945، بعد وقت طويل من انتهاء القتال في المسرح الأوروبي، بدأ الاتحاد السوفياتي في إطلاق سراح الجنود الإيطاليين العاديين الذين أسرهم خلال الجزء الأخير من حملة دول المحور لاحتلال ستالينغراد. لكن هؤلاء الجنود أعيدوا إلى ديارهم من دون ضباطهم، لأن زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي كان قد ناشد موسكو تأخير عودة السجناء الأعلى رتبة، الذين قد يدينون الاتحاد السوفياتي علناً ويؤثرون سلباً على فرص الحزب في الانتخابات المقبلة. وتجمعت الجماعات الشيوعية في محطات القطارات داخل إيطاليا للترحيب بالجنود العائدين، ظناً منهم أنهم سيكونون أكثر تعاطفاً مع قضيتهم. لكنهم أصيبوا بالصدمة عندما رأوا أن الجنود كتبوا عبارة "أباسو كومونيزمو" abbasso comunismo، التي تعني فلتسقط الشيوعية، على عربات القطار، واندلعت الاشتباكات في المحطات. وصفت الصحف الشيوعية أولئك الجنود العائدين الذين انتقدوا الاتحاد السوفياتي بأي صورة من الصور بأنهم "فاشيون".

 انطبعت القسوة المفرطة للحرب العالمية الثانية في ذاكرة أجيال عديدة

 

وأزيلت الحدود أو أُعيد ترسيمها أثناء الحرب وبعدها. ولم يعد كثير من النازحين يعرفون جنسياتهم. واقتُلعت أعداد كبيرة من السكان وأحياناً مدن بأكملها من جذورها، أو تعرضت للإجلاء أو القتل على يد القوات شبه العسكرية والشرطة السرية والقوات العسكرية. وخلال عام 1939، رحل البولنديون من الأراضي التي أصبحت فجأة جزءاً من غرب أوكرانيا إلى مناطق مهجورة في كازاخستان أو سيبيريا وتركوا هناك ليموتوا جوعاً. مدينة لفوف البولندية احتلها السوفيات مرتين والنازيون مرة واحدة، وأرسلوا يهودها إلى معسكرات الموت. وبعد الحرب، أعيد تسمية لفوف وأعطيت اسماً أوكرانياً جديداً، وهو لفيف. وفي مؤتمر يالطا خلال فبراير (شباط) 1945، إذ اجتمع قادة بريطانيا والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة لمناقشة تنظيم أوروبا ما بعد الحرب، أجبر ستالين قوى الحلفاء على قبول أن تنقل بولندا بأكملها غرباً، إذ تحصل على مقاطعات ألمانية سابقة في الجانب الغربي، بينما يستولي الاتحاد السوفياتي على المقاطعات البولندية من جهة الشرق. ولتنفيذ هذا المخطط، أجرى الجيش الأحمر أكبر عملية تهجير قسري ممنهجة للسكان خلال التاريخ الحديث، إذ هجر أكثر من 13 مليون ألماني وبولندي وأوكراني.

ومع استمرار المناقشات داخل يالطا في مؤتمر بوتسدام خلال أغسطس (آب) 1945، أصبحت رغبة ستالين في توسيع الأراضي السوفياتية واضحة. فقد أبدى اهتمامه بالسيطرة على المستعمرات الإيطالية السابقة في أفريقيا، واقترح الإطاحة بفرانكو في إسبانيا. وخلال استراحة خلال المحادثات، قال السفير الأميركي لدى الاتحاد السوفياتي أفيريل هاريمان لستالين "لا بد أن وجودك الآن في برلين يشعرك بالسرور، بعد كل ما عانته بلادك". نظر ستالين إليه من دون أي تغيير في تعابير وجهه، ورد قائلاً "القيصر ألكسندر وصل إلى باريس". لم تكن العبارة مزاحاً على الإطلاق، ففي العام السابق كانت القيادة السوفياتية أمرت بوضع خطط لغزو فرنسا وإيطاليا والاستيلاء على المضائق بين الدنمارك والنرويج. في عام 1945، قال الجنرال السوفياتي سيرغي شتيمنكو لسيرغو بيريا، نجل قائد الشرطة السرية السوفياية الذي كان يثير الرعب في عهد ستالين "كان من المتوقع أن يتخلى الأميركيون عن أوروبا الغارقة في الفوضى، بينما تصاب بريطانيا وفرنسا بالشلل بسبب مشكلاتهما الاستعمارية". وهذا ما عده القادة السوفيات فرصة سانحة. ولكن عندما علمت موسكو أن الولايات المتحدة باتت قريبة من صنع القنبلة الذرية تخلت عن هذه الخطط، على رغم أن رغبتها في التوسع لم تكن قد تغيرت.

كانت الحرب العالمية الثانية، بطبيعة الحال، أيضاً بداية العصر النووي. فقد رأى كثر في اختراع القنبلة الذرية مصدر رعب، وعدُّوا قصف الولايات المتحدة لمدينتي هيروشيما وناغازاكي جريمة حرب. ومع ذلك، فإن استهداف هاتين المدينتين اليابانيتين خلال أغسطس 1945 انطوى على خيار أخلاقي بالغ الصعوبة. فقبل أن تسرع القنابل من نهاية الحرب، كان الجنرالات اليابانيون يرفضون الاستسلام وفقاً للشروط التي أصدرتها قوات الحلفاء في إعلان بوتسدام خلال يوليو 1945، وأرادوا مواصلة القتال. بل كانوا مستعدين للتضحية بملايين المدنيين اليابانيين عبر إجبارهم على مقاومة الغزو المرتقب باستخدام رماح من الخيزران وعبوات ناسفة مربوطة بأجسادهم. وبحلول عام 1944، كان نحو 400 ألف مدني يلقون حتفهم شهرياً بسبب المجاعة داخل مناطق شرق آسيا والمحيط الهادئ وجنوب شرقي آسيا التي كانت تحت الاحتلال الياباني. وأراد الحلفاء إنقاذ أسرى الحرب من الأميركيين والأستراليين والبريطانيين الذين كانوا يتضورون جوعاً في معسكرات الاعتقال اليابانية، أو يذبحون بأوامر من طوكيو. وهكذا، وعلى رغم أن القنبلة الذرية أودت بحياة أكثر من 200 ألف ياباني، فقد تكون، في مفارقة أخلاقية مقلقة، قد أنقذت أرواح عدد أكبر بكثير.

العالم الذي صاغته الحرب

سواء للأفضل أو الأسوأ، أعادت الحرب العالمية الثانية ضبط مسار السياسة العالمية. فقد مهدت هزيمة اليابان الطريق في النهاية لصعود الصين الحديثة. وكان انهيار الإمبراطوريات البريطانية والهولندية والفرنسية بين عامي 1941 و1942 بمثابة نهاية أوروبا الإمبريالية، كما أن تجربة الحرب دفعت نحو حركة التكامل الأوروبي. وفي غضون ذلك، ارتفعت مكانة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى مستوى القوى العظمى. وأنتجت الحرب العالمية الثانية الأمم المتحدة، التي كانت أهدافها الرئيسة حماية سيادة الدول ومنع العدوان المسلح والاستيلاء على الأراضي. كانت الأمم المتحدة حلم الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، وكان مستعداً للسماح لستالين بالسيطرة الكاملة على بولندا لتحقيق ذلك. ولكن، خلال فبراير من العام الحالي، أدارت الولايات المتحدة ظهرها للمبادئ التأسيسية للأمم المتحدة، وصوتت إلى جانب روسيا ورفضت إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأدت الحرب العالمية الثانية أيضاً إلى الحرب الباردة. ويرى بعض المؤرخين أن هذا الصراع الجديد بدأ عام 1947 مع اتفاق كلاي-روبرتسون، الذي قررت ضمنه السلطات البريطانية والأميركية إعادة التصنيع في غرب ألمانيا، مما أثار ريبة ستالين. وبالفعل، شهد ذلك العام تصاعداً حاداً في التوترات، إذ أصدر ستالين خلال سبتمبر أمراً للأحزاب الشيوعية الأوروبية بإخراج أسلحتها تحضيراً لحرب مقبلة، مما مهد الطريق لحصار برلين خلال العام التالي. لكن جذور هذا الصراع تعود إلى وقت أبكر بكثير، وتحديداً إلى يونيو 1941. فقد أصيب ستالين بصدمة عميقة جراء "عملية بارباروسا"، وهي الغزو النازي للاتحاد السوفياتي الذي بدأ ذلك الشهر، ومنذ ذلك الحين عقد العزم على إحاطة نفسه بدول تابعة في وسط وجنوب أوروبا، كي لا يفاجأ بغزو جديد مرة أخرى.

من الصعب استيعاب حقيقة موت عشرات الملايين

 

على مدى قرون، كانت روسيا مهووسة بالهيمنة على جيرانها لمنع تطويقها. وكان هاجس ستالين هو بولندا. أما بوتين، فقد حافظ على هذه الذهنية الأساس، لكن في نظره، فإن الجبهة الأكثر هشاشة لبلاده هي أوكرانيا، التي يدعي أنها جزء من روسيا. وعندما ترجم هذا الادعاء إلى فعل عبر غزو أوكرانيا عام 2022، أعاد إلى المشهد سمة من سمات حقبة الحرب العالمية الثانية كانت قد غابت إلى حد كبير عن السياسات العالمية منذ ذلك الحين. فقد لعب القادة -وكثير منهم عززتهم الأنظمة التسلطية التي كانوا يسيطرون عليها- دوراً محورياً في تحديد مسار ذلك الصراع الواسع. من تشرشل إلى روزفلت إلى ستالين، أعادت مناوراتهم إلى المخيلة الشعبية فكرة "الرجل العظيم" الذي يقود مجرى التاريخ. أما خلال الأعوام الأخيرة، فقد كان تأثير القادة السياسيين أقل نسبياً، إذ قيد النظام الاقتصادي العالمي المعولم حركتهم بصورة كبيرة، كما أن الانشغال المستمر بكيفية استقبال الإعلام لقراراتهم يجعل كثراً منهم أكثر حذراً من أن يكونوا جريئين. ولأعوام، بدا أن شخصيات القادة لن تعود لتحدد مجرى الأحداث كما فعلت خلال الحرب العالمية الثانية. لكن غزو بوتين غير ذلك، وكذلك فعل ترمب، الذي اتخذ من بوتين نموذجاً يحتذى.

اليوم، ومع احتفال روسيا بيوم النصر خلال التاسع من مايو (أيار)، يبدو أن بوتين عازم على استغلال سردية "الحرب الوطنية العظمى" إلى أقصى حد. وقد يعيد تسمية مدينة فولغوغراد إلى ستالينغراد -وهو الاسم الذي تم التخلي عنه عام 1961 ضمن حملة نزع الستالينية التي أطلقها الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف- وذلك لتسليط الضوء على انتصار الجيش الأحمر في معركة ستالينغراد عام 1943، التي شكلت نقطة التحول النفسية الكبرى في الحرب. وقد يمعن أيضاً في تشويه التاريخ، محاولاً تبرير استمرار حربه داخل أوكرانيا من خلال الزعم بأن الأوكرانيين "نازيون"، في تناقض صارخ مع تأكيده السابق قبل الغزو بأن الأوكرانيين لا يختلفون عن الروس.

وفي الحقيقة، لا توجد مجموعة واحدة من الاستنتاجات يمكن استخلاصها من الحرب العالمية الثانية. فهي عصية على التعميم، ولا يمكن تصنيفها بسهولة. فهي تتضمن قصصاً لا تعد ولا تحصى عن المآسي والفساد والنفاق وجنون العظمة، والخيانة والخيارات المستحيلة والسادية التي لا تصدق. لكنها تتضمن أيضاً قصصاً عن التضحية بالنفس والتعاطف، إذ تمسك الناس بإيمانهم العميق بالإنسانية على رغم الظروف المروعة والقمع الطاغي. وسيظل مثالهم دائماً جديراً بالتذكر والاقتداء، مهما اشتدت ظلمة النزاعات خلال أيامنا هذه.

 

مترجم عن "فورين أفيرز"، السابع من مايو (أيار) 2025

أنتوني بيفور مؤلف كتابي "سقوط برلين عام 1945" و"روسيا: الثورة والحرب الأهلية بين 1917 و1921"

subtitle: 
الإرث غير المحسوم للصراع الذي شكل السياسة المعاصرة
publication date: 
الجمعة, مايو 9, 2025 - 21:45
Read Entire Article