ARTICLE AD BOX
مارغريت ماكميلان*
ترجمة: لطفية الدليمي
إنّهٌ لأمرٌ في منتهى الصعوبة أن نتخيّل حكومة عالمية بمواطنين عالميين في عالمٍ مكتظّ بهويات محلية مهيمنة ونظمٍ سياسية واجتماعية متباينة. سبق أن أدركنا منذ نهاية الحرب الباردة أنّ الدولة القومية Nation-State ليست حيّة فحسب بل مترعة بالحياة. تجربة الإتحاد الأوربي أمامنا على سبيل المثال. يعاني الإتحاد الأوربي من أعضائه على نحو لا ينقطع منذ تأسيسه. ولو فكرنا في إمكانية مدّ نطاق الإتحاد الاوربي على كامل مساحة العالم. هل تتخيّلون كيف سيكون شكل العالم لو طبّقنا فيه نظام الإنتخابات القائم على أساس صوت واحد لكلّ فرد في العالم؟ الأمر معقّد إلى حدود لايمكن ان نتخيلها.
تستدعي المعضلات العالمية إستجاباتٍ على مستوى العالم، وفي عصرنا هذا لدينا الكثير من تلك المعضلات. قد نتساءلُ احياناً ونحن في ذروة مواجهتنا لواحدة من تلك المعضلات: هل نحن في حاجة إلى سلطة واحدة موحّدة (بمعنى أوضح وأدق: حكومة عالمية) لحلّها؟ هل هذا ممكنٌ في المقام الأوّل؟ الأمرُ يعتمد في النهاية على ما نعنيه بعبارة (الحكومة العالمية). أليس كذلك؟ هل نعني إمبراطوراً على رأس إمبراطورية واحدة عالمية؟
هل نعني شكلاً من أشكال الحكومة الديمقراطية الفيدرالية للعالم؟ فيلمُ حرب النجوم يعرضُ لنا جمهورية مَجَرّيّة - نسبة الى المجرّة- Galactic Republic؛ لكنّه لا يقدّمُ مثالاً صالحاً. إنّه محض خيال علمي.
لو توافقنا على أنّ الحكومة، أيّة حكومة، يمكنُ أن تكون ممارسة للسلطة على شعب منطقة محدّدة، بموافقة أفراد هذا الشعب أم بدونها، فحينئذ نعم، يمكنُ تخيّلُ قوّة مهيمنة أو مجموعة قوى تحكم العالم، وربما تحكمه بطريقة أفضل ممّا شهدناه من نظم حكمٍ حتى اليوم. قد تكون هذه الحكومة العالمية أكثر سخاءً مع مواطنيها العالميين. هذا أمرٌ يقع في نطاق الإمكانية أيضاً. سيطرت الإمبراطورية الرومانية على عالمها الذي نعرف اليوم لقرون عديدة. كذلك إدّعى الأباطرة الصينيون إمتلاكهم "تفويضاً سماوياً" إفترضوا أنّه يمنحهم سلطة الحفاظ على النظام Order في الأرض. كما أنّ القوى العظمى عقب نهاية الحروب النابليونية أنشأت ما سُمّي الوفاق الأوربي Concert of Europe بغية تسوية النزاعات بينها سلمياً واستتباب رسوخ نظام متسم بالنزعة المحافظة على كامل القارة الأوربية.
مع توسّع نطاق معرفتنا مع بعضنا نحن البشر في القرون الأخيرة توسعت كذلك حدود قدرتنا على تخيّل إمكانية وجود نظام عالمي حقيقي. سوّغت الإمبراطوريات الأوربية زحفها التوسّعي بإدّعاء جلب الحضارة إلى رعاياها البعيدين، كما حلم مناصرو النظام البريطاني الإمبراطوري بسيادة مشتركة للإمبراطورية البريطانية (الأجزاء الواقعة تحت سيادة البيض منها فحسب) والولايات المتّحدة الأمريكية لتحقيق حكم عالمي.كانت لدى (لينين)و(ماو) رؤى مختلفة؛ إذ طمحا لبلوغ دولة شيوعية واحدة موحّدة تذيب الحدود الوطنية فيما بينها.
الفلاسفة كانت لهم أحلامٌ تخالفت مع أحلام السياسيين الإمبراطوريين. حلمَ كانت Kant بإمكانية أخرى تتعاون فيها الدول التي تتشاركُ القيم الليبرالية طواعية من غير قسر وفي إطار من السلام الكامل من غير أيّ شكل من أشكال القوة العنيفة. عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى عبّر الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون Woodrow Wilson عن رأي الملايين برؤيته لنظام عالمي أكثر ليبرالية وديمقراطية ممّا كان عليه الحال قبل نشوب الحرب، وحيث يمكنُ أن تعمل الدول معاً بالضد من التهديدات المشتركة التي تواجه البشرية بشتى أشكالها: من الأوبئة وحتى الحروب. تجسّد حلم ويلسون في عصبة الأمم League of Nations التي كانت بمجلسها وجمعيتها العمومية وبيروقراطيتها الفجّة إنعكاساً للحكومات الديمقراطية المنضمّة إليها مع فارق أنّ عصبة الأمم إفتقدت إمتياز إحتكار القوة أو السلطة المطلقة بالمقارنة مع الحكومات.
لم تمنع عصبة الأمم نشوب الحرب العالمية الثانية؛ غير أنّها تعلّمت دروساً ثمينة من إخفاقها، ولعلّ في مقدّمة هذه الدروس وأهمّها أنّ الوحدة العالمية كفيلة بكبح العدوان والوقوف بوجه إنتشاره. جابه العالم الممزّق الناشئ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 تحدّياتٍ هائلة سواءٌ في إعادة بناء ما خرّبته الحرب أو في منع نشوب حرب عالمية جديدة ثالثة أكثر كارثية من سابقاتها. استطاع الرئيس الامريكي حينها فرانكلين روزفلت، لكونه الرئيس الأقوى في العالم، تأكيد رؤيته في أن تتمتّع الأمم المتّحدة United Nations بسلطات وصلاحيات أكبر من نظيراتها في عصبة الأمم.
أنشأ المؤتمر التأسيسي للأمم المتّحدة والذي عُقِد في سان فرانسيسكو هيئة جمعت بين الإستبداد والديمقراطية. كان "رجال شرطة روزفلت الأربعة العالميون) بريطانيا والولايات المتّحدة والصين والإتحاد السوفييتي أعضاء دائمين في مجلس الأمن Security Council (أضيفت فرنسا لاحقاً كبادرة حسن نية دبلوماسية)، وكانت المهمّة الأساسية لمجلس الأمن هذا واضحة ومثبّتة:"تقع على عاتق مجلس الأمن مسؤولية أساسية تتمثلُ في الحفاظ على السلام والأمن الدولييْن" كما نصّ على هذا ميثاق الأمم المتّحدة. مع حلول عام 1948 أسّست الأمم المتّحدة قوّات حفظ سلام عالمي خاصّة بها، وهو الأمر الذي لم تتمكّن عصبة الأمم السابقة من التفكير به أو تنفيذه. في الوقت ذاته أشرفت الأمم المتّحدة على مجموعة من الوكالات -مثل منظّمة الصحة العالمية أو منظّمة العمل الدولية- التي وضعت المعايير والسياسات الدولية في مجالات مثل: الصحة والعمل،، ،، وأصبحت هذه الوكالات مع الزمن مراكز للخبرة العالمية.
عند تأسيس الأمم المتّحدة دعا روزفلت بقوّة لم يتوانَ عنها إلى ضرورة إنشاء جمعية عامة General Assembly تتمثلُ فيها جميعُ الدول، صغيرها وكبيرها، بصرف النظر عن قدراتها الإقتصادية والعسكرية، وتُعاملُ على أساس قاعدة المساواة الكاملة. مع الوقت طوّرت الجمعية العامّة تكتّلاتها الخاصّة التي مكّنتها -في قضايا بعينها مثل معالجة تفكّك الإمبراطوريات الأوربية عقب نهاية الحرب العالمية الثانية- من تحشيد الرأي العام العالمي سعياً لممارسة الضغط على القوى العظمى. اليوم، وفي أسوأ التقديرات، يمكن النظرُ إلى الجمعية العامة باعتبارها منتدى يضمُّ 193 دولة بأطياف سياسية واقتصادية شديدة التباين من كوريا الشمالية إلى السويد. ربما صار في عداد المألوف اليومي الان أن نتجاهل الامم المتّحدة؛ لكنّ وجودها يساعدُنا على التفكير في نطاق عالمي.
الدرس الآخر الذي تعلّمه قادة العالم المؤسسون للامم المتّحدة من ثلاثينات القرن العشرين هو أنّ التعامل مع الكساد الكبير Great Depression عن طريق إقامة الحواجز التجارية (ما يسمّى بسياسة الحمائية Protectionism. المترجمة) وسواها من السياسات لم يفعل شيئاً سوى إطالة أمد الشقاء العالمي والإضرار بالعلاقات الدولية. ساعدت مؤسسات بريتون وودز(1) مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (ولاحقاً منظّمة التجارة العالمية) في إدارة الإقتصاد العالمي وتعزيز التنمية الدولية. نعم، هناك الكثيرُ مما يستوجبُ النقد الموجع؛ لكن كما هو الحال مع الامم المتّحدة فإنّنا كنّا سنشهدُ وضعاً عالمياً أكثر سوءاً من دونها. مع ذلك، وتماشياً مع رؤية آن ماري سلوتر، فإنّ حوكمة Governance العالم تتجاوز بكثير المؤسّسات الرسمية العالمية (الأمم المتحّدة والوكالات المرتبطة بها) لتشمل الشبكات المتنامية للوكالات الخاصة وجماعات المصالح من قوات الشرطة إلى المنظّمات الخيرية غير الحكومية والعابرة للحدود الوطنية. الأمر سواءٌ لو كنتَ تكافحُ الجريمة العالمية المنظّمة أو تديرُ التدفّقات الرأسمالية أو تقدّمُ يد العون للاجئين فإنّ هذه الشبكات تعمل على الحفاظ على نظام عالمي؛ بل وتنشرُ القيم والمعايير المشتركة.
هل شجّعتنا المعضلات العالمية السابقة (كوفيد 19 هو أحدثُها) على تعزيز النظام العالمي الذي نعرف؟ من المؤكّد أنّ الكوارث العالمية السابقة دفعتنا إلى التفكير بكيفية مختلفة عن السياقات التقليدية التي ألفناها. انبثقت أساليب جديدة لإدارة العلاقات الدولية عقب الحروب النابليونية والحربيْن العالميتيْن، ومن جانب آخر عمل وباء كوفيد 19 على تسليط الضوء المكثّف على مكامن الضعف في هذا النظام العالمي (سلاسل التوريد Supply Chains على سبيل المثال) فضلاً عن مفاقمة وجوه عدم المساواة. غالباً ما لجأت دول العالم إلى سياسة إلقاء اللوم على بعضها، كما أنّ تجهيز اللقاحات الخاصة بوباء كوفيد 19 للدول الفقيرة كان بوتيرة بطيئة بشكل يبعث على الشعور بالعار. برغم كلّ هذه المساوئ لا يمكننا نكرانُ أنّ جهوداً عالمية تضافرت بشكل رائع لتطوير اللقاحات وأدارت عملية توزيعها على دول العالم. هل سنتعلّم بعض الدروس من هذا؟
من الأفضل لنا جميعاً أن نتعلّم هذه الدروس بسرعة. نحنُ نواجهُ المزيد من الأوبئة العالمية، والمزيد من الإضطرابات على النطاق الدولي، والأهمّ من كلّ هذا هو التهديد الوجودي للبشرية والمتمثّل في التغيّر المناخي. هل يمكننا في واحد من السيناريوهات مثلاً -وكما اقترح ريتشارد هاس وتشارلس كوبشان Richard Haass and Charles Kupchan مؤخراً في مقالة مشتركة منشورة في مجلّة Foreign Affairs- بتأسيس "تحالف قوى" جديد بهدف محدّد هو الحفاظ على الإستقرار العالمي؟ العقبات عظيمة من غير شك. الدول المارقة Rogue Nations لا تفتأ تتحدّى الرأي العام العالمي، والصراعات الإقليمية تهدّد العالم بالتحوّل إلى حروب مدمّرة. من جانب آخر للصورة يتصرّف القادة الأقوياء على مستوى العالم بنظرة آنية ومحلّية كما لو أنّ لا مستقبل ينتظر بلدانهم أو العالم، وسلوكهم الآني هذا ينتج عنه مفاعيل ضارة طويلة الأمد. دونالد ترامب على سبيل المثال خان حلفاءه وتعمّد توجيه الإهانة لهم، وكذلك تواصل بريطانيا عزل جيرانها وأكبر شركائها التجاريين. الأمثلة أكثر مما نستطيع عدّه والإشارة إليه.
يتوجّبُ عليك أن تكون متفائلاً إلى حدود غير معهودة أو شائعة لتؤمن بإمكانية نشوء حكومة عالمية قائمة على التعاون والقيم المشتركة في عالمنا المعاصر. لو سلَمنا أنّ هوبز Hobbes (الفيلسوف السياسي مؤلف كتاب اللفياثان. المترجمة) ورهطه من المُريدين كانوا على صواب في رؤيتهم السياسية فإنّ حالة مقبولة وغير صراعية من الفوضى السائدة في العلاقات الدولية هي كلّ وأعظم ما نأمله. هل يحمل لنا المستقبل نموذجا آخر غير الذي حلم به هوبز؟ تحالف بين القوى العظمى مثلاً أم شيء آخر؟ هل نحن على أعتاب عصر إمبراطوري جديد؟ ما نظنّه هو انّ عصر الإمبراطوريات قد غاب إلى الأبد؛ لكن من يدري؟ ربما يكون في فترة استجمام فحسب.
1. اتفاقية بريتون وودز: Bretton Woods الاسم الشائع لمؤتمر النقد الدولي الذي انعقد من 1 إلى 22 يوليو 1944 في غابات بريتون في نيوهامبشاير بالولايات المتحدة الأمريكية. حضر المؤتمر ممثلون لأربع وأربعين دولة، وقد وضعوا الخطط من أجل استقرار النظام العالمي المالي وتشجيع إنماء التجارة بعد الحرب العالمية الثانية. (المترجمة)
* مارغريت ماكميلان Margaret MacMillan: أستاذة التاريخ والعلاقات الدولية في مدرسة لندن للإقتصاد والعلوم السياسية LSE. ألّفت كتاباً عنوانه: الحرب: كيف شكّلتنا الصراعات War: How Conflict Shaped Us
- عن الغارديان
The post الحكومات و مصير عالمنا كوكبنا المضطرب والحكومة العالمية appeared first on جريدة المدى.