ARTICLE AD BOX
تحول حصول المريض المصري على الدواء من حق يكفله الدستور لكل مواطن بالمجان داخل المستشفيات الحكومية، إلى سلعة نادرة تباع بسعر السوق في المراكز العلاجية الرسمية.
تبرر الحكومة المصرية اللجوء إلى بيع الأدوية داخل صيدليات المستشفيات الحكومية برغبتها في تنظيم عمليات الصرف والرقابة المالية على كلفة الأدوية، والحد من إهدار المال العام، بينما يراها الأطباء تدقيقاً مبالغاً فيه يستهدف الحد من الإنفاق على توفير الدواء للمرضى، بحيث لا تزيد قيمة الأدوية عن المحددات المالية لكل شخص يحصل على خطابات رسمية بالعلاج على نفقة الدولة.
ويعتبر برلمانيون مصريون توجه الحكومة نحو "تنظيم صرف الأدوية"، ضمن سياسة اعتمدت قبل عامين، وسيلة للتخلص من أعباء إدارة المستشفيات العامة الكبرى التي توفر العلاج بالمجان، ومقدمة لإسنادها إلى القطاع الخاص في إطار تحويل نظام العلاج من خدمة عامة إلى سلعة لا تتوفر سوى للقادرين على الدفع.
وبدأت السلطات المصرية خطوات جدية لتنفيذ مخططها الهادف إلى تحرير أسعار العلاج في المستشفيات الحكومية، وبيع الأدوية داخلها بأسعار السوق على إثر تكثيف مفاوضاتها مع صناديق استثمار خليجية من أجل الاستحواذ على حصص في المستشفيات العامة، وشركات الأدوية التابعة لوزارة قطاع الأعمال العام.
يتفاوض مستثمرون عرب لشراء حصص في مستشفيات وشركات أدوية مصرية
وتتفاوض صناديق استثمار عربية وأجنبية لشراء حصص استراتيجية في المستشفيات وشركات الأدوية الحكومية المصرية، استناداً إلى تشريع صادق عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي في يونيو/حزيران 2024، بشأن "تنظيم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية"، والذي أتاح تأجير المستشفيات العامة للمستثمرين لمدة 15 عاماً بحجة تطويرها وتحسين الخدمة العلاجية المقدمة للمواطنين.
واستبقت الحكومة إصدار القانون بطرح 45 من مستشفياتها للإيجار، من بينها مستشفيات أبو تيج في محافظة أسيوط، والقاهرة الجديدة، وحميات الغردقة في محافظة البحر الأحمر، وكوم حمادة المركزي في محافظة البحيرة. بينما أعلنت وزارة الصحة إتمام تأجير خمسة مستشفيات في محافظتي القاهرة والجيزة، وهي مبرة المعادي، ومستشفى العجوزة، ومستشفى هليوبوليس، ومستشفى زايد آل نهيان، ومستشفى أورام دار السلام.
وفي 27 مايو/أيار الحالي، تنظر محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة المصري الدعوى القضائية المقامة من المحامي خالد علي، بصفته وكيلاً عن عدد من الأطباء المصريين، والتي طالبت بوقف فوري لقرارات "خصخصة" المستشفيات الحكومية، والطعن على قرارات خصخصة بعض المنشآت الصحية العامة.
وجاء في الدعوى أن وزير الصحة خالد عبد الغفار، وموقع الهيئة العامة للاستثمار، أعلنا طرح 21 منشأة صحية من طريق منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية، قبل صدور قانون تطوير المنشآت الصحية ولائحته التنفيذية، الأمر الذي يعرض مصالح الأطباء وحقوق المصريين للخطر.
وتعتزم مصر طرح 160 مستشفى حكومي من أصل 662 في 22 محافظة أمام المستثمرين خلال العامين المقبلين، ما يهدد ملايين المصريين بعدم القدرة على العلاج على نفقة الدولة، وهو الحق المكفول دستورياً بموجب المادة 18 من الدستور التي أعطت "الحق لكل مواطن في الصحة، وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقاً لمعايير الجودة. وكفالة الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها للشعب ودعمها، والعمل على رفع كفاءتها، وانتشارها الجغرافي العادل".
يقول عضو مجلس النواب المصري، ضياء الدين داوود، إن "قانون تأجير المستشفيات الحكومية للمستثمرين إنما يعكس عجز الحكومة، ممثلة في وزارة الصحة والسكان، وتخليها عن دورها في القطاع الصحي، بما يمهد إلى تحرير أسعار العلاج في المستشفيات العامة، في وقت يعاني الناس فيه من أوضاع اقتصادية شديدة الصعوبة بفعل تداعيات برنامج الحكومة مع صندوق النقد الدولي، وما رافقه من موجات تضخم وغلاء".
ويتزايد القلق بشأن التكتلات الاحتكارية في القطاع الطبي، والذي يشكو معظم المصريين من انفلات أسعار خدماته بعد أن صار جاذباً للمستثمرين نتيجة الأرباح والعوائد الضخمة التي تحققها المستشفيات الخاصة، لتحتل الاستحواذات المالية في القطاع الصحي المرتبة الثانية بين القطاعات الاقتصادية المصرية.
تضاعفت أسعار أكثر من 2200 صنف دوائي في نهاية 2024
وقفزت قيمة سوق الأدوية بنسبة 41% على أساس سنوي، ما يعكس اعتماد النمو على الأسعار التي زادت بنحو 48% خلال العام الماضي، مدفوعةً بقرار هيئة الدواء المصرية الموافقة على زيادات الأسعار بداية من مايو/أيار 2024، على وقع تحرير سعر صرف الجنيه مقابل الدولار من نحو 31 جنيهاً إلى ما يزيد على 50 جنيهاً. فيما تدرس هيئة الدواء استحداث آليات جديدة للتسعير، ما يعرف بـ"السعر الحر"، بدلاً من التسعير الإلزامي الذي يجري بموجبه تثبيت أسعار الأدوية لمدة خمس سنوات.
وتتبع هيئة الدواء الحكومية لجنة مختصة بتسعير الأدوية، يتمثل دورها في دراسة طلبات الشركات تحريك أسعار الدواء كل أسبوع، وإصدار موافقات زيادة سعر لكل دواء على حدة، بدعوى مواجهة ظاهرة نقص واختفاء الكثير من الأصناف الأساسية من السوق المحلي.
في أعقاب التعويم الأول للجنيه في عام 2016، قررت الحكومة المصرية رفع أسعار ثلاثة آلاف صنف دواء دفعة واحدة، بنسبة 15% من منتجات الأدوية المحلية، و20% للأدوية المستوردة، بزعم تعرض الشركات المنتجة لضغوط مالية نتيجة ارتفاع أسعار المواد الخام المستوردة من الخارج.
وفي نهاية 2024، زادت أسعار أكثر من 2200 صنف دوائي بما يمثل نحو 38% من إجمالي الأصناف المسجلة، بمتوسط زيادة تجاوز 50%، وتستكمل دورة إعادة التسعير لتشمل نحو 1600 صنف إضافي حتى نهاية 2025، وطاولت الزيادات أغلب أصناف المضادات الحيوية، ومضادات الالتهابات والفيروسات، وأدوية تنشيط الدورة الدموية، وموانع الحمل، وأدوية أمراض الجهاز الهضمي والكبد، وأمراض الغدة الدرقية، وخوافض الحرارة، وأدوية علاج الأورام، واضطرابات انقطاع الطمث، والتهابات الأذن، وأمراض المسالك البولية والتناسلية.
يقول مدير المركز المصري للحق في الدواء، محمود فؤاد، إن "الزيادات المستمرة في أسعار الأدوية تمثل عبئاً كبيراً على المواطنين، خصوصاً أصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن. بعض الأصناف زادت أسعارها أكثر من مرة منذ قرار تعويم الجنيه في مارس 2022، ما ينذر بالتوجه نحو تحرير أسعار بيع الدواء كلياً. الحكومة تمضي قدماً في مخططها بشأن تقليل الإنفاق على القطاع الصحي، مع تراجع مخصصات العلاج على نفقة الدولة ودعم الأدوية في الميزانية العامة، في مخالفة لمواد الدستور التي تلزم الحكومة بتخصيص نسبة من الإنفاق للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالى، وأن تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية".
وبلغت مخصصات قطاع الصحة في موازنة العام المالي 2024-2025 ما يعادل 1.17% فقط من الناتج المحلي الإجمالي.
وتحتاج مصر إلى نحو 100 مليون دولار شهرياً لتوفير مستلزمات الإنتاج والمواد الخام المرتبطة بصناعة الدواء، إذ تنتج الشركات المحلية قرابة أربعة مليارات وحدة دوائية سنوياً، تبلغ قيمتها ثلاثة مليارات و500 مليون دولار، وتعتمد نسبة كبيرة من مكونات إنتاجها على الاستيراد.
وتفرض الهيئة المصرية للشراء الموحد حصصاً لبيع الأدوية لشركات التوزيع والصيدليات والجهات الحكومية، توزع شهرياً وفقاً لقدرتها على تدبير الدولار، ودراسة إمكانية توفير أدوية محلية مقابلة للمنتج الأجنبي.
وتشير توقعات مؤسسة "إي إف جي هيرميس" المتخصصة في تقديم الخدمات الاسـتثمارية، إلى أن موجة زيادات أسعار الأدوية ستمتد لتغطي السوق المصرية بالكامل بحلول النصف الثاني من عام 2026، ما سينعكس على أسهم شركات الصناعات الدوائية المدرجة في البورصة المصرية.
ووفق تصريحات صحافية لمساعد رئيس هيئة الدواء، ياسين رجائي، فإن الهيئة بصدد تحديث منظومة التسعير حتى تكون أكثر شفافية، من دون رفع يد الدولة عن التسعير الإلزامي، لتكون قواعد وآليات تسعير الدواء أكثر مرونة بعد تحديث قرار ضوابط التسعير الذي يعود إلى عام 2012.
وأوضح رجائي أن الهيئة تتواصل مع كل الأطراف من مصنعين وموزعين وصيادلة للتوصل إلى منظومة خاصة بتحديث آلية التسعير، مستبعداً الاتجاه نحو تحرير سوق الدواء بالكامل، مضيفاً أن المنظومة الجديدة تهدف إلى منح المزيد من القدرة للمنتجين والمستهلكين على تحديد أسعار الدواء المتداول.
وأدرجت الحكومة شركتي تنمية الصناعات الكيماوية (سيد)، ومصر للمستحضرات الطبية الحكوميتين في قائمة تضم 35 شركة تسعى لطرح حصص منها أمام مستثمرين استراتيجيين أو طرحها في البورصة. وأبدى مستثمرون إماراتيون وقطريون اهتماماً بالاستحواذ على حصص في الشركتين، بعد إبداء الحكومة رغبتها في بيع حصة تصل إلى 30% من كل شركة.
وتبلغ نسبة الاكتفاء الذاتي من الدواء في مصر 91.3%، وتملك البلاد إمكانات كبيرة في قطاع التصنيع الدوائي من خلال ما يزيد على 170 مصنعاً، 11 منها حاصلة على اعتمادات دولية في مجالات التصنيع والجودة، لكنها تستورد عدداً من أدوية علاج الأورام وشلل الأطراف، فضلاً عن الأدوية الاحتكارية للشركات العالمية، علماً أن شركات محلية عدة امتنعت عن تصنيع الأدوية رخيصة السعر، أو توقفت عن إنتاجها مع ارتفاع تكاليف التشغيل وأزمة السيولة المالية.
