الشر المطلق والبربرية الصهيونية

18 hours ago 1
ARTICLE AD BOX

في عالم يزداد تعقيداً وتوحّشاً يوماً بعد يوم، تتجلّى مظاهر الشرّ المطلق بطرق متعدّدة، ولكن نادراً ما يُقارن بما يحدث في قطاع غزّة، وخصوصا لدى النخبة الغربية. إنّ الشر المطلق ليس مفهوماً مجرّداً فحسب، بل هو قوّة حيّة تعبّر عن نفسها من خلال الأفعال البشرية التي تفتقر إلى أدنى مقوّمات الإنسانية. وفي هذا السياق تصبح البربرية الصهيونية في قطاع غزّة تجسيداً مأساوياً للشرّ المطلق الذي يحطّم كلّ ما هو جميل ونبيل في الوجود الإنساني.

الشرُّ المطلق كما تناقشه الفلسفة هو ظاهرة تتجاوز الفعل الأخلاقي السيئ لتصل إلى مستوى يجعل الإنسان عدوّاً للإنسانية ذاتها، فهو نزعة مدمّرة لا تعترف بالحدود ولا بالقوانين، تفرغ الإنسان من أبعاده الأخلاقية والروحية، ليصبح مجرّد أداة للقهر والإبادة. ولعل ما يحدّث في غزّة يمثل مثالاً صارخاً لهذا النوع من الشرّ، حيث يتم تسخير التكنولوجيا والسياسة والقوّة العسكرية لفرض معاناة لا تُطاق على شعب بأكمله، إنها ليست مجرّد حرب، بل استهداف متعمّد لكلّ ما يمثل الحياة: البشر، الأرض، الثقافة، وحتى الأمل.

أشار طه عبد الرحمن في مقاله عن الشرّ المطلق: "إنّ الشر المطلق ليس مجرّد فعل عنيف أو إجرامي، بل هو حركة مدمّرة تهدف إلى تحويل الإنسان من كائن أخلاقي إلى آلة تعمل ضدّ طبيعتها الفطرية، فالشرّ المطلق يعيد تعريف الإنسانية من خلال محوها". هذه الرؤية تتطابق بشكل مأساوي مع ما يحدث في غزّة، حيث تُمارس السياسات العدوانية بطريقة تسعى إلى تفكيك النسيج الإنساني والاجتماعي للشعب الفلسطيني، محوّلة المعاناة إلى أداة للقهر المستمر.

ما يجري في غزّة ليست مجرّد حرب، بل استهداف متعمّد لكلّ ما يمثل الحياة: البشر، الأرض، الثقافة، وحتى الأمل

البربرية الصهيونية ليست فقط أفعالاً عسكرية عدوانية، بل هي منظومة فكرية تتعامل مع الآخر كهدف مشروع للإقصاء والتدمير، هذا المنطق البربري ينفي عن الآخر حقّه في الوجود، ويجعل من المأساة "قتل الأطفال والنساء والشيوخ" و"تدمير البنيات التحتية الأساسية"... وسيلة لتأكيد الذات على حساب الإنسانية المشتركة، وكما قال طه عبد الرحمان: "إن الشر الذي يتخذ من القوة مسكناً له يفقد كل ملامح التقييد الأخلاقي، فهو شر يعبر عن نفسه بلا حدود، مستغلاً غياب المساءلة وكسر المعايير". هذا الوصف يبدو وكأنه يعبّر عن واقع غزّة، حيث تُمارس العدوانية الصهيونية في ظلّ صمت دولي يضفي شرعية ضمنية على هذه الجرائم.

 تُعلّمنا الفلسفة أنّ نقد الشر يبدأ بفهمه، ولكن في حالة البربرية الصهيونية، لا يكفي الفهم، فما يحدث يتطلّب موقفاً أخلاقياً صارماً يتجاوز التحليل إلى الإدانة والعمل، لأنّ المسألة ليست مجرّد صراع سياسي، بل هي معركة أخلاقية بين قيم العدالة والحرية من جهة، وقوى القمع والظلم من جهة أخرى. وكما يوضّح طه عبد الرحمان: "لا يمكننا مواجهة الشر المطلق إلا بالعودة إلى منابع القيم الروحية والأخلاقية التي ترفض أن تُختزل إلى مجرد قوانين وضعية أو آليات سياسية".

تشكّل البربرية الصهيونية في قطاع غزّة تجسيداً مأساوياً للشرّ المطلق الذي يحطّم كلّ ما هو جميل ونبيل في الوجود الإنساني

تاريخياً، تحدّث الفلاسفة كإيمانويل كانط عن "الشر المتجذِّر" وحنة آرنت عن "الشر المبتَذَل" كظاهرة يمكن مقاومتها من خلال العقل، الأخلاق، أو الدين...، ولكن في غزّة يبدو أنّ كل هذه الوسائل تُواجه امتحاناً عسيراً، حيث إنّ الشرّ هنا ليس فقط انحراف عن المعيار الأخلاقي، بل هو محاولة ممنهجة لتحطيم هذا المعيار ذاته، إنّه يعيدنا إلى النقاش الفلسفي حول حدود العقل في مواجهة الظلم، وحول دور الإرادة الحرّة في مقاومة الطغيان.

إذا كان الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل قد أشار إلى أنّ التاريخ هو صراع بين الحرية والعبودية، فإنّ ما يحدث في غزّة يمثل مرحلة حرجة من هذا الصراع، فالشعب الفلسطيني في غزّة يقاوم ليس فقط من أجل البقاء، بل من أجل الحفاظ على كرامته كإنسان، في وجه نظام يسعى إلى إلغائها بالكامل.

في الأخير، لا يمكن الحديث عن البربرية الصهيونية في غزّة بمعزل عن الإطار الفلسفي الذي يربطها بمفهوم الشرّ المطلق. إنها لحظة تاريخية تكشف عن أعمق التحديات التي تواجه الإنسانية اليوم: كيف يمكننا مقاومة الشر عندما يتخذ شكلاً مُمنهجاً ومدعوماً بإيديولوجيات تبرّره؟

الإجابة ليست سهلة، ولكنها تبدأ بالاعتراف بحقيقة أنّ ما يحدث في غزّة ليس مجرّد صراع عسكري عادي، بل اختبار لإرادتنا الأخلاقية كأفراد وشعوب.

Read Entire Article