ARTICLE AD BOX
تعدّدت، في الأسابيع القليلة الفارطة في بلدان غربية مختلفة، الأصوات المندّدة بما يجري في غزّة من حرب إبادة تطاول الأطفال والنساء والشيوخ، وتنسف مقوّمات الحياة بمعناها البيولوجي الصرف. يجري ذلك في برلمانات ومجالس شيوخ، وكذلك في مؤسّسات اقتصادية وشركات كبرى (بنوك وشركات تصنيع السلاح...) متهمة بتمويل الكيان الإسرائيلي، أو دعمه على الأقلّ. رأينا برلمانيين وإعلاميّين وجامعيين يحتجّون على رؤساء حكوماتهم لتواطئهم وجبنهم ولامبالاتهم. تقدّم فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة نماذجَ من هذه الموجات المتتالية، تساندها بين حين وآخر (وبأشكال متفاوتة) مظاهرات شعبية، يقودها سياسيون في جلّهم من اليسار، بالمعنى الثقافي والإنساني الواسع، وطلاب الجامعات والفنّانين. وذهبت بلدان أخرى إلى ما هو أبعد، حين عبّرت بصريح العبارة عن أن ما يجري في فلسطين حقيقةً حرب إبادة، فأصدر قادة سبع بلدان أوروبية: إسبانيا ولوكسمبورغ والنرويج وأيسلندا وأيرلندا ومالطا وسلوفينيا، بياناً صارماً أعربوا فيه عن رفضهم المطلق سياسة الصمت الدولي تجاه ما يجري، واعتبار ذلك كارثةً إنسانيةً تحتاج إلى إدانة، مطالبين برفع الحصار الفوري وكفّ اعتداءات المستوطنين على الضفة الغربية، في حين اتّخذت بلدان أخرى قراراتٍ ديبلوماسيةً جريئةً: قطع العلاقات أو التهديد به أو استدعاء السفير... إلخ.
يجري ذلك كلّه تزامناً مع حدثَين بالغَي الأهمية. الأول، زيارة ترامب إلى المنطقة وسط احتفاء غير مسبوق به، والحال أنه شريك في كلّ ما يجري لغزّة، ولا يزال يصرّ على رؤيته المارقة لها، أرضاً صالحةً لـ"البناء"، واحتضان المنتجعات الفخمة، حتى لو على جثث أبنائها، ملح التراب وعشبها الذي لا ينقطع. الحدث الثاني، انعقاد قمّة عربية باهتة تعمّق الشروخ العميقة بين البلدان العربية.
أنظمتنا العربية، بما فيها التي تدّعي مساندة الفلسطينيين، لا تتيح لمواطنيها التعبير الحرّ عن تضامنهم الذي يظلّ بحسب اعتقادها تضامناً رسمياً تحتكره، وتعبّر عنه وفق إرادتها
ردّات الفعل الغربية المشار إليها، من صنع نُخب الحكم أو المعارضة، دالّة بشكل عميق، ويمكن أن يكون لها بالغ الأثر مستقبلاً لو أفلحنا في قراءة هذه المواقف ورسملتها، فهي تبرهن مرّة أخرى أن الغرب ليس "دار حرب أزلية"، بل مجتمعات وأنظمة تتنازعها اختلافات عديدة عادة، تعبّر عن مواقف ومواقع وعقائد ومصالح يعتريها، بين حين وآخر، تحوّلات وتبدّلات، وأنه رغم انحسار دوائر الحرّية تحت ضغط اللوبيات الصهيومسيحية وجماعات النفوذ المالي والإعلامي في سياق الرهاب من الإسلام والمسلمين، ما زال هذا الغرب يتيح لمواطنيه ومثقّفيه الأحرار التعبير الحرّ عن مواقفهم، وأن هذا الضمير الحيّ لم يمت، بل إنه يستعيد رهافة حسّه وعدله وإنصافه تدريجياً. تحرص إسرائيل أن تظلّ "الجماعة" الوحيدة التي تحتكر صفة الضحية، وأنها الوحيدة أيضاً التي تعرّضت لإبادة خلال التاريخ المعاصر، وأن غيرها لا يستحقّ أن يكون محلّ تعاطف إنساني مهما نُكّل به. فما يزعج إسرائيل هو أن ينافسها على هذه "المنزلة" "طرف ثانٍ، لأنها بذلك تفقد رأسمالها الذي لا يخلو من أسطرة، والذي استثمرته (ولا تزال) في ترسيخ القبول بكل تجاوزاتها الراهنة. إنها الابن المدلّل الذي يُسمَح له بارتكاب الممنوعات كلّها، تعويضاً عن "الحرمان" و"الأذى" اللذين لحقا به. لذلك، تُخرس الجميع، وتلجمهم، لأن الغرب لم يتحرّر بشكل نقدي وعقلاني من خطيئة الإبادة، هذا ما تقوله جلّ الانتفاضات الجارية حالياً، وإنْ بشكل متلعثم ومربك، من فرط مشاعر الخطيئة تلك.
غير أن هذا الأمر يحتاج منّا (نحن العرب) أن نلتقط صحوة هذا الضمير الإنساني وتعظيمه، خصوصاً أننا لم نشهد ما يضاهيه في ما يجرى بيننا من نقد لاذع تحت قباب البرلمان، أو في حرم جامعاتنا، لأن أنظمتنا، بما فيها التي تدّعي مساندة الفلسطينيين، لا تتيح لمواطنيها التعبير الحرّ عن تضامنهم الذي يظلّ بحسب اعتقادها تضامناً رسمياً تحتكره الأنظمة، وتعبّر عنه وفق إرادتها. هذه المواقف الغربية تظلّ قابلةً لأن تذهب بعيداً، فوراءها قيادات ومنظّمات وهيئات سياسية وحركات اجتماعية.
ومع ذلك، علينا أن ننتبه إلى محدودية انتفاضات الضمير هذه، وقصورها الراهن عن صناعة وعي ورأي عامّين، وسياسات واضحة المعالم في هذه البلدان، وذلك لعدّة اعتبارات، لعلّ أكثرها أهمية أننا (عرباً) عجزنا عن "تسويق عدالة قضيتنا ونبلها". لقد أضرّ الإرهاب، وكل أشكال التطرّف الديني، ومزاعم "أسلمة" القضية الفلسطينية، بالقضية ذاتها، التي انحدرت أحياناً إلى قضية طائفية أو عرقية خالية تماماً من كلّ نفَس إنساني عميق. لقد عجزت النُّخب الفلسطينية عن الارتقاء بقضيتهم إلى مرتبة كونية إنسانية، تغدو فيها مشتركاً إنسانياً على قواعد كونية، بعد أن كانت القضية الفلسطينية في ستينيّات القرن الفارط تجلب تعاطفاً وانخراطاً.
يقول الزعيم اليساري الفرنسي جان لوك ميلانشون حرفياً: "إن الجرائم المخطّط لها من الغرب، والمسموح بارتكابها في غزّة، هي تواطؤ منه، وما يجري فيها غدا قوّةً إجراميةً يرتكبها الغرب ذاته".
