القامشلي... مدينة القصب والتنوّع والتعايش

1 week ago 3
ARTICLE AD BOX

على أطراف الخريطة السورية الشمالية الشرقية مدينة تُدهشك بكل شيء. تدهشك بتنوع سكّانها. لم تستهوهم بضاعة مثقفين طارئين تفرّق ولا تجمع، وتشتت ولا توحّد في زمن تسوده الفوضى في كل شيء.
لا تزال هذه المدينة صغيرة تحبو إذا ما قورنت مع المدن السورية العريقة، فعمرها نحو مائة عام فقط. إنها مدينة القامشلي التي تختصر سورية من حيث التنوّع السكاني والتعايش الأخّاذ الذي يسودها، والذي لم تشبه شائبة، رغم كل ما جرى في سورية على مدى عقد من الزمان. تقع ضمن الحدود الإدارية لمحافظة الحسكة، إلا أن القامشلي حاضرة في المشهد السوري منذ تأسيسها على يد الفرنسيين في منتصف عقد العشرينيات من القرن الفائت، حين وُضعت الحدود ما بين سورية وتركيا. اسمها مشتق من معنى القصب باللغة التركية (kamış) الذي ينتشر على ضفتي نهر جغجغ الذي يخترقها من الوسط قبل أن يلتحم مع الخابور ليشكلا نهراً واحداً يتجه جنوباً ليرفد نهر الفرات. القامشلي اليوم متعبة مثل باقي المدن السورية بسبب سنوات الجمر التي مرّت على البلاد. تُعَدّ اليوم العنوان البارز للتعايش المثالي والحقيقي بين كل السوريين، بكل مكوّناتهم العِرقية والدينية والمذهبية. في القامشلي، مسلمون ومسيحيون، كرد وعرب، وأرمن. وكانت في يوم ليس بعيداً تضم يهوداً كان لهم دور بارز ومؤثر، لا تزال آثاره موجودة في نهضة القامشلي. قدم اليهود إلى القامشلي من مدينة نصيبين مع السنوات الأولى لتشكيلها، وباتوا جزءاً من النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمدينة. ولا يزال أشهر الأسواق في المدينة يحمل اسم "عزرا"، اليهودي الذي أسس هذا السوق في بدايات تشكيل المدينة، لذا يعتبر من معالمها التاريخية.

من يزور القامشلي ولا يجلس في أشهر مقاهيها، "كربيس"، فكأنه لم يزرها. ففيه جلس ذات يوم الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين في أثناء هروبه الشهير من العراق

في المدينة عدة أحياء، لعل في مقدمتها حي "الوسطى"، وغالبية قاطنيه من المسيحيين السريان والأرمن، وكان يقطن فيه اليهود قبل هجرة آخر عائلاتهم من سورية في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم. وهناك حي "طي" المستمدّ من اسم القبيلة العربية المعروفة، ومعظم سكانه من العرب الذين يتشاركون مع الكرد في حي "زنود". ويشكل الكرد غالبية قاطني أحياء الهلالية والكورنيش وقدور بيك والزيتونية إلى جانب بعض السريان والغجر. القامشلي التي كان عدد سكانها قبل عام 2011 نحو مائة ألف كبرت في أثناء الحرب بسبب قدوم نازحين إليها من مختلف المناطق السورية بحثاً عن ملاذ آمن، وباتوا بعد أكثر من عشر سنوات جزءاً من أهلها. يفصل بين القامشلي وأختها مدينة نصيبين التركية خط الحدود ما بين البلدين. ولكن البون شاسع بين المدينة من حيث التطور العمراني، فالنظام المخلوع لم يُولِ القامشلي الاهتمام الذي تستحقّه، ولا تفعل اليوم سلطة الأمر الواقع الموجودة.
إنّ من يزور القامشلي ولا يجلس في أشهر مقاهيها، "كربيس"، فكأنه لم يزرها. ففيه جلس ذات يوم الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين في أثناء هروبه الشهير من العراق إلى سورية عندما كان فتى في بداية الستينيات من القرن الفائت. وفي "كربيس" جلس الزعيم جمال عبد الناصر عندما زار القامشلي إبّان الوحدة السورية المصرية (1958-1961)، حيث ألقى خطاباً في فبراير/ شباط من عام 1959 لا يزال حاضراً في ذاكرة المدينة. القامشلي مدينة السياسة، ففيها رأى النور عديد من الأحزاب الكردية التي تعرّض المنتسبون إليها للاضطهاد زمناً طويلاً، مثل كل السوريين إبّان عهد الأسدين البائد. لا تزال القامشلي ومعظم محافظة الحسكة خارج نطاق الدولة السورية بعد تحرير البلاد من نظام الأسد في 8 ديسمبر (2024). تفرض السيطرة عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من خلال "الإدارة الذاتية" ذات الطبيعة الكردية. لم تصل تبعات الحرب السورية السيئة والسوداء إلى مدينة القامشلي، حيث لم تطاولها براميل الأسد وصواريخه بعيدة المدى التي دمّرت مدناً وأزالت أحياءً كاملة في مدن سورية، إلا أن المدينة تعرّضت لتهديد من تنظيم داعش الذي هاجم محافظة الحسكة ووصل الى منطقة تل تمر التي تحولت إلى ساحة حرب طاحنة انتهت باندحار هذا التنظيم بعد خطفه مئات الأشوريين. القامشلي التي تتبع لها إدارياً عشرات البلدات والقرى العربية والكردية والمختلطة، تقع على أطراف خريطة السوريين الجغرافية، إلا أنها في قلبهم، ينتظرون نتائج التفاوض التي تجريها قوات "قسد" مع الإدارة السورية الجديدة لحسم مصير مدينة مدهشة بكل شيء قبلتها دمشق.

Read Entire Article